العدد 552 - الأربعاء 10 مارس 2004م الموافق 18 محرم 1425هـ

من المسئول عن هروب «الأخ الأكبر»؟

هل نسيتم «قصة وردة»؟

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كثر الحديث عن المسئول عن هروب «الاخ الاكبر». وكثرت التحليلات عما يهدد الاستثمارات التي يمكن ان تستقطبها البحرين وما سيمثله هذا الهروب «الكبير» من تحديات لاقتصاد البلد. وهي نبرة بتنا نسمعها كلما نظمت حفلة غنائية يواجهها احتجاج، أو ظهرت مسيرة سلمية في طرف من أطراف المنامة احتجاجا على إقامة فندق أو بار على خط تماس مع منطقة سكنية محافظة.

إذا أردنا الحق فإن المشكلة لم تبدأ بفشل حفلة المطربة عجرم، ولن تنتهي بهروب برنامج الأخ الأكبر. فالقصة لها بداياتها التي لن تنتهي مادامت العقلية التي تتخذ القرارات ما زالت تجهل طبيعة هذا المجتمع، فتراوح مكانها لم تتغير أو تتقدم ولو بوصة واحدة إلى الأمام. فقبل ثلاثة وعشرين عاما، في حدود العام 1980، قام أحد المستثمرين باستضافة المطربة وردة الجزائرية، وما أدراك ما وردة أيام شبابها ومجدها وعزها في سوق الطرب العربي!

في تلك الفترة كانت المنطقة تمر بمتغيرات سياسية عنيفة انعكست على الوضع الاجتماعي والفكري والثقافي. المهم استضيفت وردة في مثل تلك الأجواء الساخنة، وأقيمت الحفلة في سينما مدينة عيسى، (وفي رواية أخرى: في سينما أوال بالمنامة) وكان المستثمر يأمل في حضور آلاف المحبين للفن، ولكنه صُدم بأن عدد الحضور لم يزد على أصابع اليد الواحدة (وفي رواية أخرى: على أصابع اليدين)! وبالتالي اقتضى الوضع التفكير العاجل لتدارك الورطة. ووسط الربكة و«الفشيلة» جاء الحل يتمشى على رجليه! وذلك بفتح أبواب السينما أمام الجمهور المتجمهر هناك. ولسوء حظ وردة لم يكن هناك أحد غير أبناء الجاليات الآسيوية العاملة في قطاعات الإنشاء والبناء! والتي لا تقبض في الشهر الواحد أكثر من 45 دينارا، بينما لم يكن سعر التذكرة يقل عن العشرة دنانير. فلما فتح الباب أمام محبي الفن اندفعت الجماهير زرافات ووحدانا، ليملأوا الصفوف الأولى من قاعة السينما. وتعرفون كم هي ضخمة تلك القاعة. ولكن...الاحباط كان شاملا للجميع: المغنّية، ومتعهد الحفلة، وحتى جمهور الطبقة العاملة الذي لم يحلم بليلةٍ أجمل ولا أهنأ من تلك الليلة «الوردية». كيف؟

وردة الجزائرية خرجت من هذه التجربة المريرة حمراء العين غضبا على شعب البحرين! وقالت كلمتها التي أصبحت محل تندّر لمن عايش تلك الفترة: «شعب البحرين مبيحبش الفن»! والله كبيرة في حق البحرين، ولكن مقبولة من إنسانة مقهورة رأت «فنها الراقي» يسكب تحت أقدام العمال الآسيويين!

الجهة الراعية للحفل التي آلت على نفسها نشر الفن «الراقي طبعا»، خرجت بتجربةٍ أكثر مرارة، فهي كمن ألقى - في لحظة غباء- حزمة من أوراقه النقدية في النار! ولا أظن انها غطّت حتى كلفة تذاكر السفر والإقامة في الفندق ووجبات الطعام الثلاث أو كؤوس القهوة أو غيرها من المشروبات!

أما الجمهور «الآسيوي» الذي حلم بليلة حمراء من أجمل ليالي العمر، فإنه خرج بالتأكيد من الحفلة قبل انتصافها، إذ لم يحظ بما كان يطمح إليه من مناظر «تنعش الروح»، كما في الأفلام الهندية حين تصطف مجموعة من الفتيات الجميلات في الشارع أو الحقل، وهن يتمايلن كأعواد الخيزران! وبدلا من ذلك شاهد مطربة واقفة مثل تمثال خوفو، تتكلم بلغةٍ لا يفهمها، وبألحان لم يألفها، فكانت الخيبة للجميع.

وأعتقد ان المستثمرين الغيارى على الفن والاقتصاد والوطن ظلوا لمدة عقدين من الزمان وهم لا يفكّرون في جلب «عمالةٍ» فنية لإنعاش الاقتصاد الوطني! وكما احتاج الاميركان إلى عقدين لتجاوز عقدة فيتنام ببركة حماقات صدام، نرى تجّارنا «الوطنيين» احتاجوا إلى عقدين من الزمان أيضا ليتجاوزوا عقدة «وردة المقهورة»! فزاد اهتمامهم في العامين الأخيرين بالفن الجميل والطرب الأصيل، والذي توج بمقدم نانسي عجرم المبارك للبحرين الذي انتهى بواقعة تكسير إشارة المرور في قرية الديه!

فنانات وسماسرة ومسئولون

هل تختلف قصة نانسي عن وردة؟ ربما، لكنها هي الأخرى غادرت البحرين وهي تتهم هذا الشعب العريق بـ «كراهية الفن»، والأكثر إنها لم تهنأ بلبس فستانها الذي فصّلته خصيصا لحفلة نهاية شهر الصيام، كما ان الجمهور لم يصل نصفه إلى القاعة، وهي لم تستمر في الغناء لأكثر من ساعة، على رغم ما نُشر انها صدحت لفترة ساعتين متواصلتين حتى أطربت الحضور! هل لذلك صلة بهروب «الأخ الأكبر»؟ ربما، وفي هذه الحال، من المسئول عن هروبه؟

من الصعب أن تتهم شعبا كاملا بالتخلف أو معاداة الفن كما فعلت المطربة «المكلومة» وردة. فالشعب الذي يعيش هذا الحراك الثقافي ويخرج كل هذه الإبداعات من رسم وخط وأفلام ومسرحيات وتمثيليات لموسم عاشوراء لا يعاني من عقدة «معاداة الفن». ومن السخف أن يهاجم بعض «الكتبة» المتحضرين جدا رغبات قطاعات كبيرة من المجتمع لمجرد معارضتها لبث مثل هذا البرنامج الهجين.

وإذا كان ليس من المقبول طبعا اتهام التجار عموما في نيّاتهم كما فعل بعض رجال الدين عندنا، إلا ان الناس يعلمون من سيرة بعض المستثمرين انهم لا يهتمون في دينٍ ولا قيمٍ ولا أخلاقٍ إذا لاحت المطامع والأرباح. فالدينار عند هؤلاء أهم من كل آيات القرآن ومن كل أحاديث النبي محمد (ص).

أعود إلى السؤال: من المسئول عن كل ذلك؟ وأقول: انها العقلية التي لا ترى الواقع ولا تجيد فهم مكوناته، وتصر دائما على رؤية ما تراه فقط. ليت هؤلاء يدركون حقيقة ما جرى ويجري مطلع شهر محرم كل عام: ثلثا شعب البحرين ينزل إلى الشوارع يبكي ويندب الحسين الشهيد، والثلث الآخر يذهب إلى عمرة «عاشوراء» تقربا إلى الله تعالى، فيما يتقرب قومٌ آخرون إلى هذا الشعب باستيراد مطربي آخر الزمان، من المتفسخين والمتفسخات، واستنساخ برامج «لحم الخنزير» المستوردة بعد أن ملّ منها منتجوها وأسماها إعلامهم بالنفايات. ولم نحصد من كل ذلك كشعبٍ يعيش فوق هذه الجزر الوادعة غير النعوت والتهم و«القذف» الذي يتفضل بها علينا «ضيوفكم» وفنانوكم الكرام ومطرباتكم الفاضلات! انتهاء بالبلبلة التي يعيشها المجتمع في أعقاب كل حفلة باذخة أو برنامج مهزول!

لقد كان في قصة وردة عبرة لأصحاب الحفلات والتجار الغيورين على الإقتصاد الوطني على السواء. وللمرة الألف: إن جذور المشكلة لم تبدأ بعجرم، ولن تنتهي بهروب «الأخ الأبله»، وبدل استنساخ البرامج وسرقة «أفكار الآخرين» فكروا بالعمل المنتج الذي يمكث في الأرض، وأما الزبد فتذكروا إنه يذهب جفاء ويطير في الهواء

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 552 - الأربعاء 10 مارس 2004م الموافق 18 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً