قال الراوي يا سادة يا كرام إنه في احدى الدول الهادئة المسالمة جاء من افتتح مرقصا و(بارا) حشد لهما الراقصات الحسان والغيد الجمان لكنه لم يوفق لجلب الزبائن بحيث يحقق المكاسب التي كان يرجوها من مشروعه هذا ما أدى به الى التفكير في اغلاقه أو نقله لدولة أخرى. وفي يوم الجمعة ذهب الناس الطيبون كعادتهم للصلاة فاذا بخطيب الجامع يشن هجوما عنيفا على المرقص وصاحبه الذي جاء لينشر الرذيلة في دولتهم المسالمة باستخدام الراقصات وعزف المزامير والطارات حتى ساعة متأخرة من الليل وان في هذا المرقص يقدم المنكرات ويمارس رواده الرذيلة من دون وازع من دين أو خلق ما يفسد الشباب وينشر الفساد بينهم!
خرج الناس من الجامع والكل يتساءل أين هذا المرقص؟ ولم يكن ذلك حبا منهم للفرفشة والنعنشة ولكن استجابة لغريزة حب الاستطلاع التي فطر عليها الإنسان، وخصوصا أن الرأي العام انشغل بالمرقص وانقسم بين مؤيد له ومعارض. وتقاذف الفريقان التهم بالتعصب لمناقشة الموضوع والحكم عليه من دون المام كاف بظروفه، وسأل كل فريق الآخر: هل شاهدتم المرقص على الطبيعة لتحكموا عليه أم بنيتم أحكامكم على أقاويل المغرضين؟!
في المساء تزاحمت جموع المواطنين على المرقص. فالفريقان (المؤيد والمعارض) حضرا للحكم عليه، وغيرهم جاء ليشاهد على الطبيعة ثم يحكم على أي الفريقين على صواب في رأيه. فكان أن ازدهر المرقص واشتهر بينما واصل الآخرون تبادل الاتهامات؟
لعل لهذه الحكاية في بعض جوانبها علاقة بما شهدناه أخيرا من ناحية اللغط الذي أثاره برنامج «الأخ الأكبر» فأصبح حديث المجالس على رغم كونه برنامجا تجاريا سطحيا. فإن الضجة التي صاحبته هي التي استقطبت الكثير لمشاهدته ليس لتفوقه مهنيا وانما حبا للاستطلاع ومشاركة في التقييم عن معرفة. شدهم جميعا ما شهدوه من رفض له واستنكار لتصويره في البحرين ومن اتجاه لاستجواب وزير الإعلام بالقول بأنه... لا يفي بوعوده والتزاماته للنواب ولا يكترث بالمجلس النيابي وأن سياساته وقراراته غير المدروسة هي التي قادت الى ما نشهده من انشقاقات وانسحاب المشروعات، ما يسيء الى اقتصاد البحرين ويشوه سمعة الاستثمار فيها. وان هذا المشروع ليس هو الأول الذي أدى الى مثل هذه المنازعات. وان تصرفاته تلك تسبب احراجا كبيرا للحكومة إذ تضعها في مواجهة النواب وقطاع كبير من المواطنين. وفي المقابل خرج بعض المدافعين بشراسة عن الوزير... بل والمرحبين بالمشروع باعتباره مشروعا حضاريا جاء ليساهم في دعم اقتصاد البحرين وأن معارضتهم تلك من شأنها أن تتسبب في انهيار الاستثمار وهروب المستثمرين الى دبي.
واشتد وطيس المعركة. وكان موقف الحكومة حكيما حين أفسحت المجال لتبادل الآراء بحرية. وخصوصا أن أحد أطراف القضية وزير فيها... ما يلزم حياديتها... فان هي وقفت بجانب الوزير و«الأخ الأكبر» فهي «تتحدى وتتجاهل قطاعا من المواطنين، بل قد يخرج من يتهمها بالوقوف مع ما يراه باطلا مسيئا لعادات البلد ومعتقداتها»، وان هي وقفت بجانب المعارضين فهي «ضعيفة خائفة. وان عدم قيامها بقمع التظاهرات المناوئة للبرنامج انما هو دليل على عدم اهتمامها بالديمقراطية وحقوق الانسان». الى أن جاء القرار الصائب والمسئول من ادارة «ام. بي. سي» ليضع حدا لهذا الموقف المحرج بايقاف البرنامج متحملة ما واجهته من خسائر، وأرجعت السبب في قرارها هذا الى «الانتصار لمبادئها في ألا تكون سببا في اثارة أية مشكلات للبلد الذي تعمل فيه»، بل وأجزلت المكافأة للعاملين الذين أنهت عقودهم «مؤكدة احترامها واستمرار علاقاتها الطيبة مع المسئولين في البحرين».
وتبقى لنا كلمة بشأن كل ما حصل، نتوجه بها لكل من شارك تأييدا أو معارضة للمشروع بأنه لا داعي لاستمرار تقاذف التهم وتبادل الشتائم فقد انفض المولد وان كانت توابعه لاتزال قائمة، وهي التي تدفعنا للنقاش الحضاري الملتزم بمصلحة الوطن وفي مقدمة الأمور الواجب اعتبارها أهمية الدراسة المتأنية للمشروعات المقبلة واخضاعها للمزيد من الجدية والتقييم في ظل معايير واضحة ومحددة يلتزم بها المستثمر، يجب ألا تقتصر تلك المشروعات على المردود المالي فقط (على رغم أن معظمه يذهب للجهات المنفذة من خارج البحرين). بل ان من المهم التزامها بضوابط مهمة في مقدمتها معتقدات وتقاليد المواطنين.
نحن لم نسمع بمشروعات تقر في أية دولة من دون ضوابط ومن دون دراسة لنتائجها على البلد الذي ستقام فيه وعلى مواطنيه، بل واخضاعها للمتابعة والمراقبة لملاحظة مدى التزامها بتلك الضوابط، وايقاع الجزاءات على منفذيها متى ما خرجوا عن التزاماتهم تلك. هناك الكثير من المعايير التقييمية التي تلتزم بها الدول، حتى وصلت لدراسة مدى أخطارها على البيئة وصحة المواطنين فما بالك بأخلاقهم ومعتقداتهم؟
أما بالنسبة إلى كل من تناول نقد ومعارضة «الأخ الأكبر» ومن رحب وأشاد به فان آراءهم مكان التقدير والاحترام فهذا هو المشروع الإصلاحي الذي ارتضيناه والقائم على الديمقراطية منهجا وسلوكا. و«الديمقراطية هي مواقف متعددة غالبا ما تناقض بعضها بعضا» كما قال الشاعر الأميركي والت وايتمان، لكن هذا التناقض لا يجوز أن يقود لما نخشاه ونحذر منه، ألا وهو التجييش المتبادل المؤدي للمواجهة التي لا يريدها أي مخلص لهذا الوطن.
قد يبدو لبعض النواب اليأس من طرح الموضوعات على المجلس النيابي الذي تتجاذبه نوازع شتى من الاستقطاب ما يجعلهم يلجأون الى المواطنين للتعبير السلمي عن رأيهم فيما يطرح، فهم أصحاب الشأن والمطلوب مساندتهم وايصال أصواتهم، وهذا متبع في أعرق الدول الديمقراطية ولا غبار عليه، لكن الغبار الخانق هو في الاحتكام الى الشارع في كل صغيرة وكبيرة وحشد التظاهرات التي تؤجج المشاعر وقد تدفع ببعض التيارات المغرضة لأن تندس بين المواطنين في مظاهراتهم السلمية وتقوم باحداث الشغب والفوضى ما يسيء للوطن ويعرض مواطنيه للمخاطر. وهذا ما أسماه البعض (تجييش الشارع)، يقابله بالمثل خطر أكبر منه وأشد فتكا. ذلك ما يقوم به البعض الآخر من استعداء الحكومة والغمز بأن سكوتها وعدم قمعها للتظاهرات انما يوحي بضعفها أو عدم اهتمامها. وهذا ما يندرج تحت تسمية (تجييش الحكومة). ولنا أن نتساءل اذا تم تجييش الشارع وتجييش الحكومة بالمقابل فماذا ستكون النتيجة: أليست المجابهة والمواجهة؟! ومن الخاسر: أليس الوطن وأبناؤه؟ ومن الضحية: أليس مشروعنا الإصلاحي الذي نفخر به ونعتز؟ أترك لكم الاجابة
إقرأ أيضا لـ "سلمان صالح تقي"العدد 552 - الأربعاء 10 مارس 2004م الموافق 18 محرم 1425هـ