في بحوثه عن الإسلام والحداثة ودراساته التي اجتهدت في تقديم تفسير معاصر للإسلام وتاريخه، توصل المفكر الإيراني علي شريعتي إلى صوغ مفردة «الاستحمار» وشرحها في سياق قراءة العلاقة بين التابع والمتبوع.
لم يجد المفكر الإسلامي - الحداثي سوى مفردة «الاستحمار» للتمييز بين الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي... والاستحمار الثقافي. واعتبر شريعتي أن «الاستحمار الثقافي» أسوأ نفسيا وحضاريا من الاستعمار المباشر أو السيطرة الامبريالية عبر شبكات المال والتجارة والاستهلاك. فالاستعمار قد يأتي عن طريق القوة وبواسطة الغلبة العسكرية، إذ تستطيع دولة كبرى تملك كل المعدات والأدوات هزيمة دولة صغيرة مستخدمة كل وسائل الكذب إذا لم تجد ذريعة للحرب والاحتلال. فالدول الكبرى التي تملك المعلومات وتسيطر على الإعلام تستطيع أن تخترع أزمة لتبرير تدخلها وهجومها في حال عجزت عن اختراع كذبة تبرر أهدافها وتخدم مصالحها.
هذا هو حال الاستعمار، فهو يمكن أن يأتي بالقوة في حال لم يحصل طوعا. أما الاستحمار فهو مسألة نفسية تبدأ من استعداد الفرد أو المجتمع أو الجماعة السياسية لقبول الاستعمار من دون قوة. وبالتالي اعتبر شريعتي أن «الاستحمار الثقافي» أشر من الاستعمار (العسكري، الاقتصادي والسياسي). فالأخير يمكن رفضه ومقاومته وبذل المستحيل من أجل وقفه أو الحد من طغيانه وإرهابه. أما الأول فله صلة بالاستعداد والقبول والقابلية، وبالتالي فإن إمكانات محاربته ضعيفة نظرا إلى أن الطرف المعني فقد ثقته بنفسه ولا حول ولا قوة لديه بعد أن فقد قابليته للممانعة واستعداده للمقاومة.
الفارق بين الجانب الموضوعي (الاستعمار) والجانب الذاتي (الاستحمار) التقطه أيضا المفكر الإسلامي - الحداثي الجزائري مالك بن نبي في الفترة التي كان يدرس فيها المجتمعات العربية في ضوء الإسلام المعاصر... وتوصل إلى الاستنتاجات نفسها التي قال بها علي شريعتي في إيران.
اختلفت مفردات بن نبي عن شريعتي إلا أنه توصل إلى الاستنتاجات نفسها في الفترة نفسها تقريبا فاستخدم مفردة «القابلية» أي استعداد التابع لكل ما يقوله ويفعله المتبوع. والاستعداد يمكن أن يكون للتعلم والفهم وأحيانا يكون ضد التعلم والفهم. و«القابلية» عند بن نبي هي الاستعداد للقبول نفسيا بالمستعمر قبل أن يتحول إلى وحش كاسر يمارس قوته وإرهابه ضد الشعوب الضعيفة والمستضعفة.
وهذا الاستعداد والقبول في طرفيه يشكل عند شريعتي «الاستحمار» الثقافي. والاستحمار حتى ينجح بحاجة أيضا إلى طرفين: الأول الاستعمار الذي يروج لبضاعته ومشروعاته الإصلاحية (مثلا الديمقراطية المسقطة بالمظلات العسكرية) التي تدعي أنها تريد التحديث والخير والنمو والتطور للمنطقة. والثاني «الحمار» الذي يصدق هذا الكلام ويبني حاضره ومستقبله ويجري حساباته السياسية على أساس هذه الوعود والمشروعات فيبدأ بالترويج لخطط الاستعمار وأهدافه القريبة والبعيدة من دون إدراك منه لمخاطر خططه وسياساته.
مفردة «الاستحمار الثقافي» صاغها شريعتي للتعبير عن حالتين: الأولى لها صلة بالمستعمر الذي يملك القوة والإرادة والخطة، والثانية لها صلة بالضعيف الذي فقد إرادة الممانعة والمقاومة وبات في حال استسلام (استعداد) تام للقبول (القابلية) بكل ما هو موجود أو معروض.
الولايات المتحدة الآن بعد غزوها أفغانستان واحتلالها العراق تريد «استحمار» الدول العربية بعرض بضاعة ترى أنها مفيدة للشعوب العربية بشرط واحد متعدد الرؤوس يتعلق بـ «إسرائيل». وهو عدم التحدث عن الاحتلال الصهيوني وطرد الشعب الفلسطيني وبناء جدار الفصل العنصري وحقوق الفلسطينيين والانسحاب من الاراضي العربية والفلسطينية في العام 1967... وعدم الإشارة أو ذكر السلاح النووي الإسرائيلي وأسلحة الدمار الشامل التي يملكها شارون. فكل هذا الشرط الطويل والمتنوع مطلوب كأساس للتفاوض على مبادئ «الاستحمار» ومداخله. ومن يرفض فالبدائل موجودة. فهناك حميد قرضاي آخر وأكثر من نصف مجلس الحكم العراقي في بغداد ليلعب الدور ويقوم باللعبة.
لم يكتشف شريعتي مفردة «الاستحمار» ولكنه نجح في التقاط آلياتها وحركاتها وسيرورتها. فهي قريبة من الاستعداد الى القابلية للاستعمار التي قال بها بن نبي في الجزائر. فالإستحمار خط واحد وخطورته أنه يطاول الثقافة في حال نجح الاستعمار في وضع يده على البلاد والعبّاد
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 552 - الأربعاء 10 مارس 2004م الموافق 18 محرم 1425هـ