العدد 552 - الأربعاء 10 مارس 2004م الموافق 18 محرم 1425هـ

مسرح الموكب بالسنابس نموذجا

تأويلات واسعة

السنابس - حبيب آل حيدر 

تحديث: 12 مايو 2017

أن ينظر للموكب الحسيني في أحد تجلياته على أنه ظاهرة مسرحية فهذا بحث جميل وأمر يغري بالمرء أن ينطلق فيه لما في الموكب من مظاهر مسرحية متعددة تمكن من (التأويلات الواسعة الخلابة) وقدمت لذلك في دراسة سابقة تكلمت فيها عن اعتبار بعض نقاد الأدب والمسرح والباحثين والمستشرقين أن ما يقوم به المجموع الشيعي في البقاع الإسلامية من تمثل لواقعة كربلاء في عشرة محرم من أول كل سنة باسم الموكب الحسيني يعد من أبعد النقاط المسرحية شعبيا لتأصيل الحركة المسرحية في البيئة العربية، منهم جون باجوت اجلوب ألماني ومحمد عزيزة وعلي عقلة عرسان ومحمد الخزاعي وغيرهم، وما محاولة تأصيل المسرح العربي نفسه من خلال هذه الظاهرة إلا لبعدها تاريخيا فهي حركة إحيائية تعطي نفسها بعدا تاريخيا يتصل بالفترة الأموية إلى العباسية إلى ما بعدها.

وهي ظاهرة غنية مسرحيا تستثير المتلقي بما يمكنه من تأويلها بأكثر من شكل مسرحي ليس أولها ولا آخرها مسرح احتفالي أو مسرح شارع أو مسرح ديني أو مسرح تغيري. وإن أصبحت أرى أنه لا حاجة لكل هذه العناوين المستعارة لأن في الظاهرة غنى وتفردا خاصا بما يمكن من اعتبارها ظاهرة مسرحية خاصة مستقلة بذاتها فنيا.

تمثيل عزاء بني أسد

وقريبا من اعتبار الموكب في شكله العام ظاهرة مسرحية بأكثر من تأويل كان بودي أن يتم بحث الزاوية المسرحية في مواكب العزاء في البحرين مباشرة وذلك بدراسة تاريخية توثيقية عن التمثيل المسرحي في المآتم الحسينية خصوصا ما كان يقام بها من مشاهد المعركة بحواراتها وصراعاتها الدامية، بين جماعة تمثل الجيش الأموي وجماعة تمثل جيش الحسين في صبيحة يوم عاشوراء في أكثر من منطقة كقرية سترة أو بني جمرة أو الدراز، أو ما كان يقدم قبل عقدين أو ثلاثة عقود مضت من الزمن تقريبا، في ليلة الثالث عشر من المحرم في قرية السنابس باسم عزاء بني أسد والتي كان يقوم عليها في القرية مأتم بن خميس فمازال في الذاكرة الطفولية شيء من ألق تلك الليلة ومازالت الأرض التي تمثل عليها تلك المشاهد ماثلة بين بيوتات السنابس، حينها كنا صغارا لا نتذكر سوى بداية ألق تلك الليلة وتجمع الناس حول موقع العرض لأن النعاس كان يغالبنا وينال من أجسامنا الطرية في ذلك البرد في الساحة المفتوحة بالقرب من السيف، وفي الصباح بعد أن نصحو تكون تلك الأرض قد امتلأت بوقع حوافر الخيل وبقع اللون الأحمر لون الدم وقد امتزج بالتراب وبالحفر التي كانت تمثل قبور الشهداء.

فضاء المكان قرب السيف

بعد موسم العشرة وبعد انقضاء ليلة العاشر من المحرم تلك الليلة التي تسمى الفاجعة والتي تحمل الثقل الأكبر بين ليالي محرم، بعدها كان الناس يجتمعون في ليلة الثالث عشر لعزاء بني أسد، وتخصص أماكن للرجال وأماكن للنساء لمشاهدة هذا العرض التمثيلي، وفي هذه الليلة المهيبة بعد جو تعبوي حزين استمر في الليالي السابقة يتم تمثيل مشهد جنائزي حزين هو من أقسى المشاهد إنسانيا، مشهد تمر به المعارك بعد النصر أو الهزيمة إذ تتوزع الجثث من القتلى والشهداء على الأرض، مقطعة الأعضاء وأشلاؤها متناثرة هنا وهناك، وفي هذا المشهد يتم إعداد أرض تمثل الساحة التي جرت فيها المعركة وسقط عليها الشهداء وتكون الأرض بمقدار مساحة 200 في 150 مترا أو يزيد تقريبا في شكل مستطيل كمنصة أو ساحة عرض يتحلق حولها المشاهدون ويتم بها حفر مجموعة من الحفر لكي تكون قبورا جاهزة للحسين وبنيه، وحفرة كبيرة لبقية الأنصار ويتم كذلك حفر ما يشبه غدير الماء ويؤتى بقدر كبير ليوضع في تلك الحفرة بما لا يدع الأرض تتشرب الماء وليمثل ذلك المشرعة أو النهر الذي وصل إليه العباس مخترقا صفوف الجيش حتى يأتي للأطفال بالماء.

ويوضع في هذه الأرض مجموعة «الشبيهات» وهي عبارة عن دمى لأجساد مقطعة الرؤوس ومضمخة بلون الدم الأحمر القاني، وهي مبتورة الأيدي لتمثل جثث الشهداء بعد تساقطها في المعركة الدامية، وتوزع على أرض بالشكل الآتي: في البداية من جهة الغرب الشمالي يوضع جسد مدمي يمثل شيخا كبيرا هو جسد الشهيد حبيب بن مظاهر الأسدي، وبعده بعدة خطوات جثة مقطوعة الرأس ممتلئة بالسهام والنبال المصنوعة من سعف النخل وبها سهم ذي ثلاث شعب يستقر في وسط الصدر ويخرج من الظهر، وبجانب هذه الجثة جسد طفل صغير مضروب بسهم في عنقه لتمثيل الحسين الذي أصيب بالسهم الثلاثي وطفله الرضيع، وقد قتل من الوريد إلى الوريد كما هي عبارة المقتل، وبالقرب منها بخطوات جسدان لشابين مقطوعي الرأس يمثلان القاسم بن الحسن وعلي الأكبر بن الحسين مضمخين بالدماء والسهام تملؤهما، ومجموعة من الأجساد للشهداء من الأنصار وتنصب كذلك في أحد الجوانب خيمة لبني أسد بعد عقدهم النية على المكوث هذه الليلة لدفن الأجساد، وما يلحظ أن هذه الأجساد في صورتها البسيطة والمباشرة هي ما تسمح به المخيلة العقيدية عادة في محاولة تمثيل الحادثة التاريخية حذرة شيئا ما على عدم التحريف المباشر أو الانحراف عن نص السرد التاريخي، وإن كانت المخيلة في تعاطيها الطقسي لهذه المأساة تستكمل كثيرا من المشاهد بما يجلي حالة المظلومية الواقعة على الذات في تعاطيها مع الواقع وما تمارسه الأنظمة القامعة فتحاول أن تتصور الحدث من خلال القدرة على استكمال النص من الذات المقموعة.

سرد الحدث بعد المعركة

وخلال هذه المشاهد يتم تمثيل الحدث الأساسي وهو إجراء مراسم دفن الشهداء من خلال سرد مأسوي للحادثة إذ يحضر مجموعة يمثلون نساء ورجال بني أسد وهم قبيلة بني أسد الذين كانوا يسكنون قريبا من منطقة كربلاء متجهين إلى غدير الماء، فيشاهدون هذه الأجساد المقطوعة الرؤوس ممددة على الأرض وبعد تفاجئهم من وقع وهول المشهد يدور بينهم حوار فيتساءلون عن هذه الأجساد ومن أصحابها فهي من غير رؤوس وقد تناثرت أشلاؤها وأعضاؤها على ساحة المعركة حينها ينوون دفن هذه الأجساد ولكن كيف يدفنونها وهم لا يعرفون أصحابها وكيف لهم يجمعوا كل جسد بأعضائه المتناثرة فيقررون وضع رجل في جادة الطريق ليحرسهم من ابن زياد وجنوده، حينها يلوح لهم فارس قادم من بعيد فيخافون ويرتاعون لهذا القادم فهم في جو من مشاهد تبعث على الرهبة والرعب في النفس بما يجعلهم يخشون من أي قادم، لذلك قاموا بوضع حارس على الجادة من الطريق ليعلمهم بأي طارئ، فيقترب الفارس القادم من جهة الكوفة، فيرتاعون منه ويخبرونه أنهم إنما جاءوا للمشرعة فوجدوا هذه الأجساد وتوقفوا للفرجة فيسألهم عن حقيقة ما في صدورهم إلى أن يطمئنوا إليه فيعلمونه بنيتهم ويعلمهم بنيته، حينها يخبرهم بأنه إمامهم علي ابن الحسين جاء لدفن أبيه وإخوته وأبناء عشيرته والأنصار الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله وسقطوا تحت راية الإسلام واستشهدوا بين يدي إمامهم الحسين، فيضج المكان من تفاعل الجمهور بالندب والنعي المختلط بالبكاء منادين في صرخات واحسيناه واغريباه واشهيداه، وبعد ذلك يقوم هذا الفارس بالدلالة على هذا الأجساد وبيان أصحابها راويا كيفية حدوث المعركة والمقتل بالتفصيل ما يعيد شحن الجو من جديد بالبكاء والندب مع سرد مقتل كل شخصية على حدة فهذه الجثة للشاب القاسم بن الحسن وتلك الجثة لعلي الأكبر بن الحسين وتلك الجثة التي بالقرب من النهر للعباس المقطوع اليدين، وذلك الطفل هو طفل الحسين وقد ذبح على صدر أبيه عطشانا في مشهد مأسوي كبير وهذا الجسد الممزق الأعضاء ذو السهم الثلاثي للحسين بن علي بن أبي طالب، وتلك الأجساد للأنصار حبيب وزهير وبرير وغيرهم من الأنصار وهكذا بعد تعريفهم بالأجساد وأصحابها واحدا واحدا يقوم ومعه بنو أسد بتجميع أجساد الأنصار ودفنهم في حفرة واحدة ثم دفن حبيب بن مظاهر والعباس والأكبر والقاسم كل في مكان سقوطه وإما حينما يأتي لجسد الحسين فيقوم فإنه يطلب المساعدة لجمع الأوصال المقطعة في «بارية حصيرة من خوص النخل» ليقوم بدفنه لوحده، حينها يتساءل عن فقده لإصبع الحسين مجليا الحال المأسوية التي قتل فيها أبوه أبوعبدالله الحسين.

الشخوص وأهم الممثلين

على رغم ما يشوب هذا المشهد التمثيلي من بساطة في الأداء المسرحي الشعبي لكن ثمة شعور بالتفاعل العميق يجعلك تقول ما أكثر بلاغة التوصيل التي يقدمها الخطيب جرّاء المهارة والقدرة الصوتية المتمكنة لديه، ولذلك فإن الشخصية الأساسية في هذا المشهد والتي هي شخصية علي بن الحسين لم يكن ليمثلها سوى الخطيب الحسيني إذ يقوم باستعادة شيء من رواية المقتل في هذه الليلة من جديد، مع أبيات من الشعر الحسيني بأطوار النعي المعروفة القريبة من المقامات العربية والأطوار العراقية والبحرانية، وأما بقية الشخصيات فتكون مثل مجموعة الكورس المدعمة للمشهد على رغم دورها الأساسي من خلال الأسئلة المتعددة لتمثيل حال الحيرة والتفاجؤ واستثارة الجو الإنساني المتعاطف مع الشهداء والغاضب على أعدائهم ومن ساقهم لمثل هذا المقتل، ويكون الجميع قد ارتدى الثياب التاريخية ذات الألوان المختلفة وقد أحضروا معهم قرب الماء وأدوات الحفر.

ومن أهم الخطباء الذين توالوا على التمثيل في عزاء بني أسد لسنين كثيرة ومتوالية هم الخطيب الحسيني الشهير محمد باقر المقدسي حفظه الله والخطيب الحسيني الشيخ مسلم «رحمه الله» والخطيب الحسيني عبد الوهاب عبد الحسين الكاشي «رحمه الله» الذي له ذكرى عطرة في المنطقة والخطيب الحسيني العراقي السيدجاسم الموسوي الكربلائي الذي ظل الناس في السنابس يتشوقون لأدائه المتميز سنين طويلة، وأما بقية الذين يمثلون نساء ورجال بني أسد فالبعض قد توفي رحمهم الله والبعض الآخر مازال موجودا ومنهم الملا الحاج حسن سهوان والد الرواديد المشهورين في البحرين والملا عبدالعزيز المشيمع والحاج مهدي بن خميس والحاج عبد النبي السجاد «رحمهم الله جميعا» ومن الأحياء الملا أحمد بن ناصر المعلم والحاج حسن ملا أحمد والحاج عبد النبي أبو عباس والحاج عبدالنبي الشيخ «حفظهم الله» والكثير ممن لا يسع المجال لذكرهم، ومازال لدى الكثير منهم الكثير من الذكريات حتى أن البعض قد لحقته بعض الأسماء من ذلك المشهد التمثيلي الذي تعاقب على تمثيله في كل عام.

فترة التوقف

أما عن سبب توقف تمثيل عزاء بني أسد فهو لرفض بعض الخطباء التمثيل لما دار في تلك الفترة من تحريم بعض الفقهاء للتشبيه أو تمثيل الشخصيات المقدسة أو ما كان يصاحب تلك المشاهد من عدم انضباط حال الجمهور وانتظامه مما كان يسبب توهينا لتلك الفعاليات والشعائر الحسينية أو لتغيير مكان الأرض التي يقام عليها التمثيل في تلك الفترة أو للرغبة التي اجتاحت فترة الثمانينات من محاولة قلب هذه الفعالية التمثيلية إلى مسيرة نظرا للدور السياسي الكبير الذي كانت تقوم به المسيرة العزائية في تلك الفترة متناسين أهمية مسألة التنويع في الفعاليات ومدى قدرة المسرح وحال التمثيل على خلق سعة شديدة من التواصل الفاعل والقادر على خلق التغيير الكبير الذي يراد من هذه الفعاليات في أبلغ تعبير.

نقد سريع

ان من أهم ما يلحظ في هذا العرض المسرحي الذي كان يقدم في ليلة الثالث عشر من المحرم هو أنه حالة من حالات تقديم حفل جنائزي لائق بهؤلاء الشهداء في صورة تراجيدية حزينة للتعبير عن المأساة في أثر من صورة واستجاشة مكامن الدمع بسرد المأساة من جديد وإشهاد اناس عليها ومما يلحظ أيضا أنه على رغم قدرة التوصيل ومستوى التفاعل مع هذا المشهد الذي يستلب الدمعة من النفس إلا انه يظل عرضا بسيطا من ناحية الأدوات المسرحية وأنه يعتمد في تأثيره التواصلي على الناحية العقدية من جهة وعلى الناحية المعرفية المسبقة لدى الجمهور بالعرض الذي يتكرر في كل عام ويحفظ الناس حوادثه بدقة ولذلك فإنه كانت ومازالت ثمة حاجة شديدة وملحة لتطوير مستوى العرض ومستوى الإخراج ومستوى النص وعدم التوقف في مستوى العروض على الحادثة المباشرة المعروفة باستعادة السيرة الحسينية المعتادة وإنما الانطلاق في رحاب التأليف على مستوى النص المسرحي والإبداع الإخراجي الفني بما يخدم الرسالة التي يراد توصيلها من خلال هذه العروض التي هي آخذة في التصاعد والتنامي سنة بعد سنة.

أمل وتطلع

وقد شهدت فترة التسعينات وما بعدها حالة من التسارع نحو استعادة هذه الفعاليات في السنابس وفي أكثر من منطقة من خلال مجموعة من العروض المسرحية لمجموعات كثيرة في مختلف مناطق البحرين من الشباب الجادين الذين يجتهدون سنة بعد سنة لتقديم قضية الإمام الحسين مسرحيا غير مقتصرين على استعادة وتقديم السيرة فقط، والذين يؤمل لهم أن يتطوروا فنيا ويكون تمثيلهم بمستوى الحدث في التعبير عن أهداف ثورة الإمام الحسين التغيرية مع مراعاة أهمية التمكن من الأدوات المسرحية لتقديم نص أجمل، وعرض أكمل، وأداء أفضل





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً