العدد 552 - الأربعاء 10 مارس 2004م الموافق 18 محرم 1425هـ

التعامل الخاطئ مع الألفاظ تشتيت لقوى المجتمع المختلفة

محمد جواد رضا:

أكد مستشار الدراسات التربوية والاجتماعية بمركز البحرين للدراسات والبحوث محمد جواد رضا أن تعاملنا الخاطئ مع ألفاظ وتراكيب اللغة العربية عبر تاريخ الحضارة العربية الاسلامية أزم علاقتنا الوجودية بالكون، وحال بيننا وبين صنع اجماع مقبول بين قوى العالم المختلفة. وكان محمدجواد رضا ألقى محاضرة تحت عنوان «اللغة العربية وتشكيل الفكر العربي... معضلة الخروج من (الميثولوجي) إلى (الوظيفي) اللغة وديناميكيات الفكر والسلوك الجمعي - نظرة فوقية»، مساء الاثنين الماضي 8 مارس/ آذار الجاري ضمن برنامج الندوات العلمية المتخصصة (الملتقى الثالث) لمركز البحرين للدراسات والبحوث.

وكان مدخله لهذه المحاضرة هو استحضار نصين لغويين هما نص لكونفيوشوس يتعلق باللغة والعدالة، والآخر نص لمدير مركز الدراسات الادراكية بجامعة هارفرد غيروم يتعلق باللغة والفكر. جاء في النص الأول لكونفيوشوس «صحح اللغة، فان لم تكن اللغة صحيحة فإن ما يقال لن يكون هو الشيء المراد، وإذا كان المقول غير المراد فان ما ينبغي الأخذ به يظل مهملا، وإذا بقي ما ينبغي الأخذ به مهملا فإن الأخلاق والفنون تتحلل، وإذا ما تحللت الأخلاق والفنون فإن العدالة ستبتلى بالضلال وإذا ما ابتليت العدالة بالضلال فإن الناس سيتيهون». وجاء في النص الثاني لبرونر «قال دانتي إن الرجل الفقير يكره أدوات عمله، وانه لشيء أكثر من مقلق بالنسبة إليّ أن أجد أكثر طلابي ينفرون من اثنتين من أدواتهم الفكرية الأساسية... الرياضيات والاستعمال الواعي للغتهم الأم... وكلتاهما ابتداع لتنظيم أفكار الإنسان بشأن الأشياء وتنظيم التفكير في التفكير نفسه، وأني لآمل أن تشهد الحقبة المقبلة تكريس اهتمام أعظم لإثارة رغبة الشباب بهاتين الأداتين العقليتين الممتازتين».

ثم بدأ المحاضر ورقته بقوله «إن أكثر الأشياء وضوحا في حياتنا أكثر الأشياء تعقيدا، ومن ذلك اللغة العربية واللغة العامية تحديدا، فكثيرا ما كان تعاملنا الخاطئ مع الألفاظ طوال تاريخ الحضارة العربية الاسلامية حائلا بيننا وبين ايجاد علاقة مقبولة بين قوى المجتمع المختلفة، الأمر الذي جعلنا غير قادرين على حسم أمورنا، فلو رجعنا إلى أيام الخليفة الراشد الثالث لوجدنا أن نقاط الاختلاف بينه وبين الثائرين ارتدت رداء لغويا فضفاضا، ومن ذلك كان عثمان بن عفان يقول (المال مال الله) وهذا القول يفتي بإطلاق يد صاحب السلطان، فهو ممثل السلطة الإلهية فهو إذا حر في التصرف بذلك المال، فقد وهب لابن عمه مروان بن الحكم خَراج مصر لخمس سنين، فلما خوطب في ذلك قال: (ولِمَ كنت إذا أمير المؤمنين؟)، ولكن أحد الثائرين وهو أبوذر الغفاري يقول: (المال مال المسلمين) وهو قول يفتي بكف يد صاحب السلطان إلا في الأوجه التي شرّعها القرآن الكريم، وهاتان العبارتان كانتا بمثابة صيغ سياسية ملغومة، وهما تؤسسان لنوعين مختلفين من السلطة السياسية، والحال نفسه مع الخليفة الراشد الرابع فقد رفع الخوارج بعدما تمردوا عليه شعار (لا حكم إلا لله)، وكان رده ردا فقهيا (نعم لا حكم إلا لله... ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله)، إذا فقد كان الفارق بينهما مؤتزرا البيان اللغوي أو اللفظي».

ثم استعرص جملة من هذه الشواهد معلقا «ذلكما موقفان فقط بينما هناك شواهد كثيرة على فعل اللغة، فعندما حولنا هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967 الى نكسة خدعنا أنفسنا أكثر حينما قبلنا قرار مجلس الأمن الذي كان فخا كبيرا، فالقرار نص على استرجاع (أراض عربية محتلة) وليس على (الأراضي العربية المحتلة)».

وتابع «فاللغة قد شكلت استجاباتنا لتحديات التاريخ، وعلى أساس من ذلك نطرح هذه القضية. فقد قامت اللغة بتعكير علاقتنا بالكون نفسه، حتى ترجمت حالنا كلمة عبثية هي الدهر، وقد ورثنا من هذه العبثية الدهرية رؤية هلامية في طبيعة الأشياء، رؤية حجبت عنا النظر في الأسباب المقبولة القادرة على صنع واقعنا الانساني فنحن غير مستعدين لبذل الجهد في فهم تلك الأسباب، فالتفسير الهلامي يعفينا من كل ذلك، فكأننا بذلك نسري بالبركة فان أعجبتنا الأشياء فنحن من أملى إرادته وإن كان العكس فنحن ضحايا الزمن الرديء. ولكن هذا ما نمارسه كل يوم، ويكفي أن نفتح الصحف السيارة وغير السيارة حتى نفاجأ بالمقالات ذات العناوين الغلاظ من المشمئزين من وضع الحال العربي المتدثر بالهزائم والعجز، فأحيانا يخرج كاتب بعنوان (الكتابة خارج الزمن الرديء) وتارة بعنوان (الزمن العربي الرديء) وثالثة تتكلم عن (الزمن السخيف) إذا هناك حال واضحة من قبلنا تجاه الزمن، وتزكية لأنفسنا عن القصور وتبرئة لها من المسئولية».

واستدرك «ولكن هل تعالج الأمور هكذا؟! لماذا لا يسأل هؤلاء القانطون على الزمن لماذا زماننا العربي رديء الى هذا الحد؟! وكيف تكون الأزمنة الأخرى، وبم نقيس رداءة الزمن وجودته؟! فالزمن بدلالته الاجتماعية نتاج البشر أنفسهم، نتاج فكرهم وعملهم وتعاملهم، فلو استمروا على هذه الحال لما كان إلا الانصراف عن حقيقة أزمتنا وعن العمل على تشخيص أسباب الأزمات ومسبباتها، فلو قام هؤلاء بهذا الاهتمام لوجدوا أن حرمان الضمير العام للأمة من هذه الحقيقة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية هو علة كل ذلك، وأنه لا يوجد زمن جيد أو زمن رديء وانما نفوس مبدعة حرة كريمة مبتدعة بناءة لنظم سياسية واقتصادية وتربوية».

ثم تكلم المحاضر باسهاب عن تجربة أبي العلاء بهذا الخصوص قائلا: «وإلا فلننظر إلى أبي العلاء المعرّي، الذي لم يكن لديه ذلك الطموح أو الطمع الذي يموّه عليه رؤيته للأشياء، فقد نفض عينيه من كل شيء، فلم يكن ليوفق بين الإحباطات والمكاسب والخسارات الشخصية، فكان في ذروة التحرر الوجودي، لذلك انكشفت له الأمور فكان قادرا على تفسير الأشياء بمسبباتها الحقيقية، فكان بليغا في تعبيره عن البشر لأنهم من يصنع الجودة أو الرداءة، الأمر الذي كان يشكل انقلابا علائيا يدفع الناس الى أن يحاسبوا أنفسهم وهذا ما كنا نحن العرب نتحاشاه خوفا وطمعا أو تلبسيا أو تدليسا، ومثل كل دعوته العقلائية دأب أبوالعلاء يعلّم الناس أن ينظروا في أنفسهم ويراجعوا ليتبينوا مواقع الجودة والرداءة، وكان يعلم الناس أن الجودة والرداءة مرتبطة بحرية الاختيار ومسئولية الانسان، أما الإحالة على الزمن أو الدهر، فهي تأتي من باب القصور أو التقصير الذي يكشف عن أحد وجوه العجز المسلكي، فقد جهد أبوالعلاء في عصمة عقل الانسان العربي من فانتازية اللغة المموهة، وجهد في تعليم الناس أن الزمن ليس رديئا، فقد كان الهدف العلائي يهدف الى إحلال الحقيقة الموضوعية أو المادية محل الخيال الميتافيزيقي في بنية الفكر التي يجب أن تكون لغة موضوعية واضحة محددة».

وأنهى ورقته بقوله: «ان للتعابير المغبشة قدرة هائلة على استدعاء معان غير قابلة للتحديد في أذهان الآخرين، معان لا يمكن ضمان التوصل من ورائها الى نتائج نافعة للمجتمع، وان كلمات مثل الحرية العبودية والمجتمع الصالح والتقدم والتخلف، تظل عرضة لسوء الاستعمال وايقاع الشقاق الاجتماعي ما لم يكن هناك اجماع على مضامين محددة وشفافة»





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً