تتدافع طبقات وفئات محيطة بالسلاطين، وتلهث وهي متحلقة حول موائده، وتحاول تبرير القرارات الفوقية منه، كلٌ بحسب مجاله واختصاصه، فالعلماني بعلمانيته، والديني بدينه، وهكذا... ولنا في هذه العجالة وقفة مع هذه الفئة وهي فئة «بعض» علماء الدين، الذين لا يتورعون في تزيين الباطل وفي الدفاع المستميت عن القرارات الفوقية وتبريرها بشتى الطرق والوسائل (ساعة بتفسير النصوص، وساعة بتأويل تفسير النصوص، وساعة أخرى بتأويل الأحاديث، وأخرى بشرح ناقص لتلك الأحاديث أو القيام ببترها عن سياقها ووقائعها). وذلك ليا لعنق الحقيقة. ويمارس هؤلاء العلماء أدوارا مختلفة، من تحليل الحرام وتحريم الحلال، متعللين بأخف الضررين، ودفع أدنى المفسدتين، فيستنبطوا الاحكام من النصوص هي أقرب ما تكون لهوى أرباب الحكم والنفوذ، وذلك من أجل إسباغ الشرعية على أفعالهم.
ومع وجود هذه الطغمة المتحلقة حول السلاطين والحكام إلا أنه لابد من الإشادة بتلك الفئة من العلماء الربانيين، والرجال المخلصين في ذاك الزمان.
خدمات جليلة للسلطان
مهما تكن (الخدمات الجليلة)التي يقدمها «علماء السوء» على حد وصف الامام القزري فإن انقلاب السلطات عليهم غير مأمون. فحينما ينتهي الدور المطلوب منهم تأديته، وخلو رصيدهم الجماهيري، حينها يتم الاستغناء عن خدماتهم، سواء بإحالتهم إلى (التقاعد)! أو ركنهم في زاوية النسيان والإهمال على الأرصفة الخلفية بدلا من الواجهات والمقاعد الأمامية... أو أكثر من ذلك إذ يتم بأسلوب قتل الشخصية (كما حدث أخيرا مع «كوبونات صدام» وأشار إليه النائب ليث شبيلات) أو تصفيتهم جسديا إن لزم الأمر، ذلك حتى لا تقرأ أو (تفك) طلاسم حقب مضت. وقد يتخلص منهم بدعاوى الإرهاب والتخلف والخيانة والعمالة.
في عهد عبدالناصر تم (استعداء) معظم القوى على الساحة ضد الإسلاميين فوصفوا من قبل النظام وأجهزته وأعوانه بأنهم رجعيين ومتخلفين وخونة وعملاء وضد الوطن. وكانت تلك النعوت سائدة في تلك الفترة، وتم كذلك أيضا إبان فترة حكم السادات أن استعدى الإسلاميين ضد العلمانيين والمثقفين واتباع الخط الناصري، فكان وصفهم بالمادية والإلحاد والانحلال وغيرها من نعوت تنفر الناس عنهم.
إذا هكذا دأب السلطات في تأليب واستخدام طرف ضد آخر، وهؤلاء الأطراف كل منهم يظن أنه يخدم فكرته وإيديولوجيته وهم في الحقيقة يقدمون (خدمات جليلة) لتكريس القمع والدكتاتورية التسلطية والاستبداد والنهب والإقطاع. فالسلطة تقدم القليل لهؤلاء لتأخذ منهم الكثير، والحال كذلك، فالمجني عليه الوحيد في تلك القصة هو الشعب. والمواطن العربي البسيط (يتوه) بين التحديث ودعاته وبين الاستئسار للقديم ومفخراته، منذ عصر النبوة وما تلاها من انتصارات وفتوحات. فيكون المواطن بين نقيضين لا يلتقيان!
وتحاول السلطات الرسمية استمالة بعض الشخوص لبعض الوقت، فتارة احتضان تيار التحديث بما يتضمنه من دعوات تحررية واستقلالية سياسية وعدالة اجتماعية وشعارات تقدمية، وتارة أخرى تتبنى شخوصا من التيار الديني التقليدي الذي يملك أيضا منابر أخرى غير رسمية منها دروس المساجد وحلقات الذكر ومنابر الجمعة، والخطاب الديني مع ما يحمله من (حلحلة جاهزة) لقضايا العصر ومن إيمانيات لا يستهان بتأثيرها على الجماهير، إلا أن ارتماءه في أحضان السلطات يسقط الكثير من أسهمه عند الجماهير. فتأثيره وهو معزول عن السلطات أكثر من تأثيره وهو مرتمي بأحضانها. لذلك نرى التيارات الدينية القريبة من السلطات لا توجد لديها قواعد جماهيرية عريضة يعتد بها أثناء الفرز الانتخابي أو التحشيد والتجييش لقضية معينة.
نستشف من ذلك. أن السلطات الحاكمة تتعاطى مع مختلف التيارات بتجاذبات من التركيبة نفسها (أي من جمعيات وأحزاب سياسية ورموز سياسية ودينية) وذلك في أخف الحالات سلطوية، أما في حالات التأزم والعنف السياسي والتي يتم فيها اقصاءات بالجملة، واعدامات بالجملة أيضا، لا فرق هنا بين تيار وآخر، بين عالم دين لاهوتي وعلماني ملحد، بين مسلم متطرف متعصب وليبرالي حداثي منفتح فالكل سواسية أمام مقصلة الإعدام الطاغوتية!
لمحات من التاريخ الإسلامي
إن جذور الاستبداد السياسي والديني موغلة في التاريخ الإسلامي، ولذلك لابد لنا من إطلالة على التاريخ الإسلامي. فمنذ انتهاء عصر الخلافة الراشدة، وتحولها إلى ملك عضوض، مرورا بحوادث عظيمة - على رغم الحالات الاستبدادية الكثيرة كانت هناك اشراقات عظيمة للعلماء والعظماء - وواقعة الطف خير مثال «فالحسين عظيم ابن عظماء يواجه شرار أهل الأرض» كما يقول ابن تيمية. والمطاردات الأموية للمعارضة السياسية والدينية كثيرة، ولم تكن تلك الحادثة إلا تتالي لحوادث استبدادية سلطوية دينية وسياسية. والمتأمل في حياة (سلف الأمة الصالح) يرى الكثير من الجوانب المضيئة فقصة أبي سعيد الخدري حينما «تع» ثوب مروان بن الحكم، وهي جانب يستفاد منها في الإنكار العلني على السلاطين. وكذلك موقف أحد أعمدة هذا السلف، الإمام سعيد بن جبير (رهـ)، وهو يواجه مخاض عسير ينتهي بنهاية أجله على يد الحجاج! وكذلك فإن أبا حنيفه (رهـ) ونظرا لاستمراره في خط المعارضة للأمويين حيث مد الإمام زيد (رهـ) بآلاف الدراهم واستمر على النهج ذاته في زمن العباسيين... فكان أن قضى أبو حنيفة في سجن المنصور!
والمواجهات لا تحمل دائما سمة سياسية محضة، فقد تكون دينية وقد تكون مزدوجة من الديني والسياسي. والمواجهات لا تتم دائما بسيف الحجاج، كما يقال تعبيرا عن البطش الدموي بالمعارضة؛ ولكن قد تتم بمسرحية يعد السيناريو فيها السلطان مع علماء السوء، ويحيكون خيوطها لمقارعة العلماء الربانيين أصحاب الحجج البليغة. فأحمد بن حنبل واجه رأس المعتزلة ( أحمد ابن دؤاد) قبل أن يواجه السياط، وهذا جانب من الاستبداد الديني، والذي حاول فيه الخليفة المأمون «مواجهة تيار أهل الحديث خاصة، بعد تأييدهم لثورة محمد النفس الزكية، ونمو قوتهم بصورة متصاعدة»، وهي مواجهة دينية في ظاهرها سياسية في باطنها، وقصة سعيد بن المسيب حينما تقدم (ولي الأمر) لخطبة ابنة سعيد لولده (ولي العهد) فما كان منه إلا أن زوجها لشاب لا يملك إلا درهمين فقط! وهي مواجهة وان كانت لا تخلو من الطابع الديني، وذلك لانعدام الكفاءة الدينية في الخاطب وأبيه، إلا أنها ولتعلقها برأس الدولة فإنها تعتبر مجازفة سياسية خطيرة، وقد دفع ثمنها أبن المسيب. ولم يقل ابن المسيب حينها سأتقرب من السلطان تحببا للحاكم ولكي نكون قريبين منه لنصحه وسأقبل وأصلح الأمر من الداخل. ولكنه واجه الأمر بالحق الصريح الذي لا غبار عليه ولا مواربة فيه، أو مداهنة.
ومن صور الاستبداد السياسي/ الإجرامي ما تم بحرّة المدينة ومحاصرة المدينة النبوية واستباحتها من قبل (مسرف) مسلم بن عقبة، وقتل يومها الكثير من العلماء وأفضل أهل الأرض في ذلك العصر، بشهادة النبي (ص) حينما وقف على موقع الكارثة وقال: هنا يقتل خيار أمتي، أو كما قال (ص)، وقد قتل في تلك الواقعة الكثير من حفظة القرآن والحديث. ولحديث النبي (ص) دلالة واضحة على ما كان من البغي والعدوان الذي كان بأمر من يزيد الذي أرسل مع قائد الجيش تعليمات الحصار والإستباحة للمدينة النبوية.
وهنا تجدر الإشارة لمحاورة لطيفة يجهلها كثير من أبناء الحركة الإسلامية والسلفية منها تحديدا، وتصب تلك المحاورة في السياق ذاته، وهي أنه حينما سأل ابن الإمام أحمد ابن حنبل أباه عن يزيد ولماذا لا يكتب عنه فأجاب الإمام: ولا حرف ولا كرامة. فقال له ابنه (يستثيره على الكلام): أولا تحبه قال الإمام ابن حنبل: أو يحب يزيد رجلا يؤمن بالله واليوم الآخر، قال ابنه: أولا تلعنه، قال الإمام أحمد: أو رأيت أن أباك لعانا. (مع الملاحظة إن لابن قيم الجوزية مصنفا خاصا في جواز لعن المعين غير الكافر) هذا هو السلف الصالح. وهذه مواقفهم من السلطة والسلطات والبطش والتنكيل والاستبداد. فما هو موقف خلف القوم اليوم؟!
ويبقى القول صحيحا أنه وإن كانت هناك من غصات ومنغصات في تاريخ المسلمين الأوائل؛ إلا أن الظرف التاريخي العصيب الذي نمر به اليوم يستدعي وقفة شجاعة من جميع الأطياف والطوائف لمواجهة الأزمة وبقلب رجل واحد، أزمة الداخل وما يمثله من الاستبداد والدكتاتوريات والتسلط السياسي والإقصاء الديني والتطرف الفكري، ومن ناحية أخرى وعلى خط متوازي مواجهة التهديد الخارجي الذي يحاول مسخنا على مكانتنا. إنها دعوة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومضــات
« الجماعة رحمة والفرقة عذاب». (حديث شريف).
«إياكم والخصومة في الدين فإنها تحدث الشك وتورث النفاق».جعفر الصادق (ع).
تم توزيع كتيبات في مناطق مختلفة من المملكة تدعو إلى الإقصائية التراثية ومتضمنة فلكور الشتائم الطائفية. من الطائفتين، والناتج عداوات فاعلة تنخر جسد المجتمع الواحد والأسرة الواحدة. فهل هذه أسرة واحدة أم أسر متحاربة؟
في التسعينات - فترة الاحتقان السياسي- قلنا إن أمن الدولة تقوم بتوزيع منشورات تارة موقعة بكتائب الحسين وأخرى بكتائب الفاروق، والاثنان بريئان من هؤلاء. ولكن «أمن الدولة» حُلت اليوم، فمن يقوم بهذه المهمة؟!
تتجلى شخصية المرء عند الملمات والمواجهات الفكرية والعقائدية، وتنجلي غيوم السماء لتسفر إما عن أقمار مضيئة وإما عن ظلمات حقيرة، ويبتلى المرء بحسب دينه - كما في الحديث الشريف - لذلك كان ابتلاء الحسين بن علي (ع) وهو العظيم ابن العظماء، أكبر من أي ابتلاء لاحق حلّ على أحد من المسلمين
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 551 - الثلثاء 09 مارس 2004م الموافق 17 محرم 1425هـ