كانت أرضا خالية من العمران قبل أن تنزلها قافلة الثوار الأباة، فأصبحت مزارا على كرّ العصور.
كانت الخطة تقتضي الإجهاز سريعا على القلة المناوئة بعد حصار محكم في ساحةٍ صغيرةٍ من الأرض، في ضربةٍ عسكريةٍ خاطفةٍ يبقى دويها يتردد طويلا بين الركبان. وبعدها أقيمت على قبر الشهيد (ع) المسالح، ونُشرت المخافر لمنع الزائرين. وفي العهد التالي، تفنّن بعض الخلفاء العباسيين في ملاحقة الزوّار بأنواع العذاب، من فرض المكوس إلى قطع الأيدي والرؤوس، فما انقطع الزوار ولا توقفت القوافل عن الورود. إنه نهرٌ دافقٌ من الحب والعشق والأحزان المضطرمة في الصدور.
التاريخ يذكر أن أول الزائرين هو الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري (رض)، ففي مثل هذا اليوم، العشرين من صفر لسنة إحدى وستين للهجرة، جاء جابر إلى كربلاء زائرا، ولأنه كان ضريرا اصطحب معه دليلا خادمه عطيّة العوفي التابعي، الذي حمله والده سعد بن جنادة عند مولده إلى علي (ع) بالكوفة ليسمّيه فسمّاه «عطية الله». ومن الرواة من يقول إنه اصطحب معه جماعة من أهل المدينة أيضا... والأهم من ذلك أنه أرسى آداب الزيارة للشهداء.
المؤرخون اعتنوا بتسجيل ما جرى في ذلك اليوم بالتفصيل، فجابر نفسه نزل الفرات واغتسل وتطيّب ولبس أفضل ثيابه، لأنه ذاهبٌ للقاء الشهيد حفيد صاحبه محمد (ص). وأخذ يسير الهوينى، وأمر خادمه بأن يدلّه على القبر ليلمسه، فلما وقف على القبر أجهش بالبكاء، وأخذ ينادي حسينا، ولم يكن يتوقع طبعا أن يسمع جوابا. ثم أخذ يخاطبه بعباراتٍ كلها أدبٌ واحترام: «يابن خاتم النبيين وابن سيد المؤمنين وابن فاطمة سيدة نساء العالمين... فطبت حيا وطبت ميتا، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك».
ثم استدار نحو قبور الشهداء الذين حلّوا بفناء الحسين وأناخوا برحله، يتراوح عددهم بين السبعين والمئة، بعضهم من الأشراف وبعضهم من الأرقاء والعبيد، ووجّه تحيته لأرواحهم، وشهد لهم بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الملحدين، وعبّر عن إيمانه بقضيتهم ومشاركتهم في جهادهم. هذا وخادمه يسمع ما يقول فاستنكر عليه مقالته، فردّ عليه: «إني سمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول: من أحب قوما كان معهم ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم».
المصادفة جمعت في ذلك اليوم التاريخي، الصحابي الجليل ببقايا الأسرة النبوية العائدة توا من رحلة السبي إلى الشام، لتترك للأجيال لوحة بالغة الحزن والأسى. كانت القافلة تضم خمس عشرة امرأة، إلى جانب من تبقى من الأطفال الذين أفلتوا من قبضة الجوع والعطش والتعب ومشقة الطريق الطويل، بينما الأطفال الآخرون تركتهم القافلة نياما في أجداثهم الصغيرة الموزّعة بين السفوح والوديان بين العراق والشام.
هذه الزيارة التي استنّها جابر، حرص عليها أئمة البيت النبوي، وفي مقدمتهم جعفر الصادق الذي عاش في فترةٍ انتقاليةٍ بين سقوط الأمويين وصعود العباسيين، فحثّ كثيرا عليها ودعا أتباع مدرسته الفقهية المستقلة للحرص عليها، سقيا لشجرة الإسلام الذي أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه... في روضة كربلاء
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2355 - الأحد 15 فبراير 2009م الموافق 19 صفر 1430هـ