في خطوة أخرى جريئة، اغتنم جلالة الملك مناسبة مرور ثمان سنوات على «الميثاق الوطني» كي يحولها إلى خلوة سياسية تجمعه بأعضاء السلطات الثلاث.
حملت الدعوة أكثر من مدلول، وشكل الاجتماع أبعد من مجرد لقاء روتيني كالذي نشهده في بعض المناسبات.
وكما يبدو فإن جلالة الملك قد تلمس بوادر الأزمة السياسية التي نقدم عليها، وأدرك مجموعة الأسباب التي تكمن وراءها والتي من بين أهمها:
- تزعزع الثقة السياسية على أكثر من مستوى، المستوى الأول تزعزعها بين بعض أجنحة السلطة وبعض قوى المعارضة. فبينما ترى تلك الأجنحة أنها لم تحظ بمستوى الاعتراف بما قدمته هي من تنازلات عبر عنها الميثاق ومن بعده الدستور المنبثق عنه، ترسخت في نفوس تلك القوى، قناعة شبه مطلقة، بغض النظر عن مدى صحة هذه القناعة، بأنها لم تحصل على المقابل المتوقع لقاء التنازلات التي قدمتها عندما وافقت على التوقيع على الميثاق، ومن ثم مشاركة أكثريتها في الانتخابات النيابية، الأمر الذي يجعلها شبه موافقة على الدستور المنبثق عنه. المستوى الثاني، تخوف بعض القوى في أوساط السلطة، من تنامي مطالب المعارضة الأمر الذي قد يرغمها على تقديم المزيد من التنازلات التي قد تفقدها، في حال الموافقة عليها، على تسليم بعض من خيوط النفوذ التي لاتزال ممسكة بها وبكل قوة، وأن السبيل الوحيد للحؤول دون تقديم المزيد من التنازلات، حسب نظرتها، هو «الضغط» على الفرامل لتخفيف سرعة التحولات نحو المزيد من الديمقراطية. المستوى الثالث، هو تزعزع ثقة المواطن في قدرة المعارضة على تحقيق بعض المطالب، وخاصة الحياتية منها، التي اعتقد أن وسع المعارضة انتزاعها، وفي فترة تعتبر قياسية، آخذا بعين الاعتبار الظروف المحلية المسيطرة، والإقليمية المحيطة. المستوى الرابع هو بين صفوف المعارضة ذاتها، التي لم تنجح حتى اليوم، في التوصل إلى برنامج وطني عام يشكل المظلة الكبرى التي تناضل من تحتها فصائل المعارضة كافة.
- تفاقم الأزمة الاقتصادية، بعد أن كشفت عن بعض جوانبها مؤسسات مالية عالمية ذات علاقة بمثيلاتها المحلية التي لم يعد في وسعها التستر على الخسائر التي منيت بها، والتي وصل لدى بعضها إلى مئات الملايين من الدولارات، ما جعل تأثيراتها تمس حياة المواطن العادي، الذي يجد في القنوات السياسية مجالا يعبر من خلاله عن معاناته التي ولدتها تلك الأزمة، والتي لايبدو حتى الآن، أو حتى في الأفق القريب، أن هناك مجالا في تلافي ازدياد حدتها، أو إمكانية التخفيف من شدة انعكاساتها على الأوضاع الاجتماعية، الأمر الذي يهدد باحتمالات انفجارات سياسية تدفع نحو الخلف بالقوى الكبرى، وتضع في الصفوف الأمامية قوى صغيرة، تمتلك قدرات أكفأ لتحريك الشارع السياسي، في فترة أقصر، ومن أجل أهداف محدودة الأفق، لكنها قادرة على تصعيد الصراعات، وتحويل الثانوي منها إلى رئيسي، ودفعه نحو الأولويات، وهذا من شأنه تأزيم الوضع السياسي.
- تأزم الوضع السياسي إلى درجة أصبح يبدو فيها المشهد وكأنه يصدم بجدار أصم مسدود. خطورة هذا التأزم أنه لم يعد محصورا بين السلطة من جهة، والمعارضة بكل فئاتها من جهة ثانية، بل امتد عميقا في صفوف كل منهما على حدة. وإن كانت دعوات الحوار بين صفوف المعارضة والاجتماعات المعلن عنها بين أجنحة السلطة، قد عكست جوانب إيجابية في بعض مظاهرها، لكنها عبرت بشكل واضح عن خطورة ذلك التأزم. الأمر الذي ينبغي أن يؤخذ في الحسبان أن البحرين ليست حالة استثنائية حين تواجه مثل هذه المأزق، الذي هو إفراز من صلب أزمة عالمية تتجلى، أيضا، في الساحات القطرية، معبرة عن حاجة لتغييرات جذرية لم تعد المعالجات الشكلية ولا الإصلاحات التجميلية قادرة على تخدير آلامها. تشهد على صدق تلك التغييرات التي بدأت تهب على بعض دول المنطقة كي تمس أفراد ومؤسسات كان الحديث عن إجراء أي تغيير فيها يصل إلى مستوى المحرمات.
- حاجة الميثاق إلى تجديد، فقد جاء الميثاق، ومن بعده الدستور، كي ينتشلا البلاد من مأزقها الذي ولدته سيادة قوانين قمعية عبر عن أكثرها سوءا قانون أمن الدولة، الذي حول البحرين إلى سجن كبير، تكممت فيه الأفوه، وأعميت بموجبه الأبصار، وصودرت من جرائه أبسط الحريات الإنسانية. لكن مرور سنوات ثمان، ولدت حالة سياسية صحية نجحت، وإلى حد بعيد، في إثراء الساحة السياسية البحرينية، ونقلت المطالب اليومية للمواطن البحريني من الدرجات السفلى إلى مراتب أعلى بحاجة إلى قوانين أكثر رقيا، وعلاقة أكثر تطورا بين المؤسسسات الثلاث. ولربما حان الوقت أمام خطوة جريئة شبيهة بتلك التي جاء بها الميثاق الوطني.
- تنامي حضور مؤسسات المجتمع المدني، دون أن ينعكس ذلك وبالثقل المطلوب في موازين القوى الفاعلة في المشهد السياسي، الأمر الذي ولّد شعورا لدى هذه المؤسسات بوجود سياسة مرسومة تقضي بتهميشها، وتقليص مساهماتها في أي مشروع سياسي على المستوى الوطني. أدى ذلك إلى حرص تلك المؤسسات على تصعيد مواجهاتها في نطاق سعيها، وهو سعي مشروع ومبرر بكل المقاييس، في تعزيز دورها أولا، وترسخ أقدامها ثانيا، وتشبيع دائرة مسئولياتها ثالثا وليس أخيرا.
من يراقب المشهد السياسي بدقة وبدون أي تحيز، سوى الانحياز لصالح المواطن العادي، سيكتشف أننا في البحرين أمام مفترق طرق حاد: الأول يأخذ بيده نحو خشبة إنقاذ المشروع الإصلاحي وانتشاله من عثرة قد تعصف به، وعبرت عنها بوضوح الأزمة السياسية التي تمظهرت في أكثر من صورة، والثاني يقوده المشروع ذاته نحو الاتجاه المعاكس، الأمر الذي من شأنه دفع البلاد من دائرة النور إلى دياجير الظلام.
ومن الطبيعي أن يكون جلالة الملك، أكثر قدرة من سواه على توجيه دفة السفينة نحو أفضل الطرق التي نتمنى جميعا أن تسلكها البحرين في المستقبل القريب، وليس ذلك بصعب على ربان سفينة الميثاق الوطني
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2355 - الأحد 15 فبراير 2009م الموافق 19 صفر 1430هـ