ما أسباب الحركة المستديمة التي نراها في أجواء الجامعة العربية وخارجها، والتي تتداعى لها البلاد العربية من اجل شيء معلن اسمه ( الإصلاح) ويتردد صداها في العواصم العربية؟
يرى الجمهور العام أن الإصلاح هذا المنادى به هو شيء هلامي غامض وغير محدد، يجتمع من اجله العرب لينفضوا، لا بسبب مبادرة مباشرة منهم، ولكن بسبب مبادرات تأتي من الخارج. دعونا نفحص كل هذا الحديث عن (رفض) ما يأتينا من الخارج، أليست مفارقة أن يكون رفض تلك المبادرات التي تعلن عنها الولايات المتحدة، وتتبعها أوروبا علانية يأتي من على منصة الجامعة العربية؟ وهي تحديدا قد قامت في السابق كما يعرف الجميع بمبادرة من الخارج، الجامعة العربية قامت لأن الفكر البريطاني الاستراتيجي بعد الحرب العالمية الثانية حبذ أن تقوم! وأن تكون فكرة قادمة من الخارج ليست بالضرورة سيئة، لقد تقبلها الآباء لأن بها مصلحة ما في ذلك الوقت، ولكن على منبرها نفسه اليوم ترفض المبادرات الأخرى.
ثم ألا يضع الكثير من العرب العربة أمام الحصان، ثم يطلبون جر العربة إلى الأمام؟ والمطلوب ليس أن يبادر العرب إلى إصلاح جامعتهم العتيدة، بل الأهم هو وضع العربة خلف الحصان، وهو أن يجري الإصلاح المنشود في كل دولة على حدة، هكذا هي دروس التاريخ فإصلاح الكل قبل إصلاح الجزء هو عبث يتلهى به البعض وليس له فائدة تذكر، أما إصلاح الجزء فهو الذي يقود لا محالة إلى إصلاح الكل.
التجربة الأوروبية ماثلة للعيان، فلم تقبل كثير من الدول الأوربية في منظومة السوق الأوربية المشتركة السياسية و الاقتصادية قبل أن تصلح من نفسها، بمعنى أن تتبنى المؤسسات السياسية الحديثة سياسية واقتصادية على السواء.
مطلب الإصلاح في دول الشرق الأوسط، والدول العربية على وجه الخصوص ليس جديدا، فقد تمت المطالبة به منذ عقود، سواء من المستنيرين العرب أو المؤسسات الدولية أو حتى الدول الغربية.
ودعونا نتصفح التاريخ القريب، فقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط في يناير الماضي عددا من الوثائق التي أفرج عنها أخيرا من أضابير الحكومة البريطانية، وهي تتحدث عن حوادث وقعت قبل ثلاثين عاما، أي عام 1973 وما قبلها، وقتها نُظر إلى العالم العربي في وضعه غير المتحرك وطولب بالإصلاح كمخرج لكل ما يعانيه، وقتها لم تنفجر الجزائر كما انفجرت لاحقا، ولم يتوغل السودان في حرب أهلية كما توغل بعد ذلك، وكانت الحرب الأهلية اللبنانية في علم الغيب، ولكن كل ذلك حصل في العقود الثلاثة التي تليها، بل وحصل الأسوأ، أكان ذلك في العراق أو في فلسطين، كل ذلك نتج عن عدم قراءة حقيقية للواقع العربي والخوف من التغيير.
شيء مهم نقرؤه في هذه الوثائق التي صدرت وقتها عنوانه (الإصلاح) وإلا فإن النذر تأتي بما هو أسوأ، ففي الوثيقة رقم 59 بتاريخ 26 سبتمبر الصادرة من السفارة البريطانية في القاهرة تقول «ما لا شك فيه أن العرب محتاجون إلى ثورة تعليمية، فنظام التعليم (العربي) غارق في الروتين» بل تذهب تلك الوثيقة إلى القول إن «منهج العرب تجاه الحياة و العمل منهج زائف وغير أصيل وغير واع...» وتصف الوثائق بعض الساسة العرب وقتها بـ «أنهم ارتجاليون أكثر منهم صانعو سياسة عاقلة».
وتقرير البنك الدولي الصادر في الثامن من سبتمبر 2003 يعود من جديد ليذكرنا بأهمية بل ضرورة الإصلاح للوضع العربي، «لأن الحكم في الشرق الأوسط تنقصه قضيتين هما أساس للإصلاح: التضامنية والمساءلة».
نقص المسألتين يؤدي كما تم فعلا، إلى فشل التنمية بل إلى عدم وجودها.
وهناك وثائق كثيرة، منها ما قدم للجامعة العربية ذاتها من أهل الرأي العرب، أن الإصلاح أصبح ضرورة، بعد أن كان أمنية، وأن كل هذا الإحباط يمكن أن يتفجر بما لا تحمد عقباه في وجه الجميع، إذ يرى المواطن العربي، مع ثورة الاتصال و المواصلات، كل ما تتمتع به الشعوب في العالم من حريات تمنع عنه، ويظل يرفل في أثواب ثقيلة من القوانين المقيدة تقريبا لكل شيء، بل إن رئيس الوزراء البريطاني قال أخيرا ان الحرب على الإرهاب هي في إشاعة القيم التي نؤمن بها، وربما يقصد القيم المؤسسية، قبل القيم الشخصية.
من بعض هذه الإشارات نلتقط فكرة مركزية وهي أن (الإصلاح) أمرا ضروريا ليس بسبب ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001 - التي لا تزال بعض القيادات تنكر مساهمة العرب فيه كما صرح حسن الترابي أخيرا - وليس بسبب تقدم شعوب العالم، بل بسبب هذه القناعة التي سادت قطاعات واسعة من العرب، أن ليس بالامكان الاستمرار كما في السابق لا في الشأن السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.
الخوف من الإصلاح هو مستشار سيئ والتردد يؤدي إلى أسوأ العواقب، وليس هناك نقص في الأدبيات في الإشارة إلى اولويات الإصلاح في كل بلد عربي على حدة، أو المشترك و العام والجوهري في البلاد العربية قاطبة.
فهناك بلاد عربية يعاني شبابها بطالة واسعة، وهناك بلاد عربية يعاني شعبها ضيقا في التنفس السياسي، وهناك بلاد عربية بينها وبين تطبيق القانون الساري سنوات كثيرة، وهناك بلاد عربية فيها من سوء توزيع الثروة ما يلاحظه أي عاقل.
بيت القصيد أن أجندة الإصلاح الجماعي أو الفردي لم تعد غامضة، بل هي مشاهدة تشترك فيها الدول العربية أو تنفرد.
لعل إصلاح التعليم هو من اولويات الإصلاح المنشود على المستوى العربي العام، و المعني هنا هو ربط التعليم بخطط تنموية حقيقية، باعتبار أن التعليم هو استثمار في رأس المال البشري المتوافر، ولقد قدمت مجموعة من الدراسات في مؤتمر التعليم الذي نظمته مؤسسة الفكر العربي في بيروت في الشهر الماضي، ما يغني عن أية دراسات جديدة، وتنظم مكتبة الإسكندرية بداية الأسبوع المقبل ندوة كبرى عن «الإصلاح العربي المنشود: الطرق والوسائل»، كما أن هناك عددا من الدراسات الوطنية أو القومية تقدم مؤشرات واضحة لخطوات الإصلاح. فلا يوجد نقص في أفكار الإصلاح المنطلقة من عقول عربية، النقص في وضعها موضع التطبيق من متخذي القرار.
و الخوف من وضع هذه الخطط أو بعضها موضع التنفيذ هو الذي يعطل الإصلاح ويزيد من ضغط الخارج وقنوط الداخل.
فهل نستغني عن هذا المستشار السيئ (الخوف) ونقدم على ما يجب أن نقدم عليه من إصلاح؟
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 550 - الإثنين 08 مارس 2004م الموافق 16 محرم 1425هـ