بعد الشكر والتقدير للأخت الكريمة منيرة فخرو لاهتمامها بموضوع مخرجات التعليم والتدريب وعلاقة هذه المخرجات بسوق العمل، وبالإشارة إلى مقالها المعنون بـ «رسالة مفتوحة إلى وزير العمل والشئون الاجتماعية: ما هكذا تحل المشكلات يا سعادة الوزير...» المنشور في صحيفة «الوسط» (العدد 547 السبت 6 مارس/ آذار 2004)، أود أن أبين بعض الأمور التي ربما تكون خفيت على الأخت الكريمة، أو انه التبس عليها الأمر فيها:
أولا: إنني أقدر تماما أهمية الدراسات الاجتماعية وأقدر الكفاءات والخبرات العاملة في هذا المجال وعلى رأسهم الفاضلة، مشيرا إلى أن 70 في المئة تقريبا من جهود وزارة العمل والشئون الاجتماعية إنما تصب في مجال الرعاية والتنمية الاجتماعية، الأمر الذي يبرهن على مدى حرص الوزارة وحرصي الشخصي على هذا الجانب. بيد أن ما ينبغي الالتفات إليه هو أن عملية التعليم والتدريب بوجه عام لا تسعى فقط إلى تزويد المتعلمين والمتدربين بالمعارف والمهارات من باب الثقافة العامة أو ما شابه ذلك، وإنما يجب أن تتوافق مع الاحتياجات الفعلية في سوق العمل أيضا، ولاسيما في سوق عمل كالسوق البحرينية التي تشهد تطورا متسارعا تبعا للتطورات الاقتصادية والانفتاح في الأسواق المحلية على الأسواق العالمية في شتى المجالات والفروع. وما لم تمتع أنظمة التعليم والتدريب في المملكة بالمرونة الكافية للتعاطي مع تلك التغيرات والتطورات، فإن الفجوة بين ما تحتاج إليه سوق العمل ومخرجات التعليم والتدريب ستبقى في ازدياد مستمر، الأمر الذي يعمل على تفاقم مشكلة البطالة من جهة ويلقي بتبعاته على الواقع الاقتصادي للبلاد من الجهة الأخرى، وما يترتب على ذلك من تأثيرات وانعكاسات اجتماعية سلبية. وليس هذا الأمر بخافٍ على أي مختص أو باحث أو مراقب في هذا المجال.
ثانيا: إننا اليوم نعيش واقعا لابد أن نعترف به إذا ما كانت رغبتنا في تصحيح ما يعاني منه من مشكلات وأخطاء حقيقية وصادقة. جزء من هذا الواقع هو أن هناك عددا من التخصصات الجامعية يعاني من حال من التشبع ولاسيما في ظل محدودية الفرص الوظيفية المتاحة فيه وانحسارها في عدد يسير من الروافد والمواقع. وعلى رأس هذه التخصصات تأتي التخصصات الأدبية والعلوم التطبيقية كالجغرافيا واللغة العربية والخدمة الاجتماعية. وهي تخصصات لم تعد وزارة التربية والتعليم بحاجة إلى المزيد من الكوادر البشرية فيها. وإذا كان الأمر صعبا بالنسبة إلى تخصصات اللغة العربية والجغرافيا وغيرهما، فلنا أن نتخيل حجم الصعوبة في تخصص كالخدمة الاجتماعية إذ تزداد محدودية المجالات التي يمكن أن ينخرط فيها الخريج. إن أمامنا اليوم ما يفوق 400 خريجة في تخصص الخدمة الاجتماعية فقط وأكثر منهن في طريقهن إلى التخرج، ممن عجزن عن الحصول على فرصة عمل تتناسب وتخصصهن في ظل التشبع الذي تعاني منه وزارة التربية والتعليم. ويجب ألا نغفل أن هؤلاء الطلبة والطالبات يمضون سنين من أعمارهم في الدراسة ويدفعون مبالغ طائلة نسبيا إذا ما نظرنا إلى أوضاعهم المادية إذ قد تترتب عليها بعض الديون التي تعاني عوائلهم من وطأتها، بغض النظر عما إذا كانت ترى أن تلك المبالغ يسيرة وفي متناول الجميع، ليفاجأوا في نهاية المطاف بأن مؤسسات الدولة غير قادرة على توظيفهم بسبب التشبع، وأن مؤسسات القطاع الخاص غير قادرة على استيعابهم بسبب عدم حاجتها إلى مثل هذا التخصص.
ثالثا: لقد قمنا في وزارة العمل والشئون الاجتماعية بعرض أكثر من فرصة لإعادة تأهيل الخريجات في مجال الخدمة الاجتماعية بهدف إدماجهن في مؤسسات القطاع الخاص، غير أن الخريجات أبدين إصرارا على العمل في مجال تخصصهن في مؤسسات القطاع العام، الأمر الذي يخرج الموضوع من إطار صلاحيات واختصاصات وزارة العمل والشئون الاجتماعية المعنية بالقطاع الخاص فقط. كما أبدت الوزارة استعدادها لإعادة تأهيل الخريجات للعمل في مجالات أخرى في وزارة التربية والتعليم، غير أن معايير وزارة التربية والتعليم من جهة وتشبعها من الجهة الأخرى وقفا حائلا دون المضي في هذا الاتجاه.
رابعا: فيما يتعلق بجهود الوزارة في توظيف العاطلين عن العمل، فإنني أؤكد أنني وإخواني وأخواتي في الوزارة نبذل قصارى جهدنا في العمل على توفير فرص عمل للعاطلين بمختلف مستوياتهم التعليمية. وقد حققنا بحمده تعالى نجاحات كبيرة في هذا المجال، لا تحتاج إلى أكثر من زيارة من قبلها لمكتب خدمات التوظيف للتحقق من ذلك. كما يمكنها خلال هذه الزيارة أن ترى قوائم الوظائف المعروضة على الحائط بمختلف المستويات بانتظار من يتقدم إليها من العاطلين عن العمل.
خامسا: لقد استنكرت فخرو علي طلبي من مجلس أمناء الجامعة وقف هذا التخصص سعيا إلى وقف مأساة الكثير من الطلبة والطالبات، متناسية أنني بصفتي عضوا في مجلس الأمناء ورئيسا للجنة الأكاديمية في جامعة البحرين يحق لي كما يحق لغيري من الأعضاء أن يرفع مقترحاته ومرئياته للنهوض بمستوى أداء الجامعة، في حين يبقى القرار النهائي في هذا الشأن مرهونا بما يتخذه المجلس من قرار. وعلى رغم أنني أتمتع بهذا الحق، ، فإنني لست أدعو لأن يتخذ أي قرار من دون الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص ومن بينهم الأخت الكريمة، بل أدعو من يرى في نفسه الكفاءة أن يتقدم بمرئياته ومقترحاته إلى مجلس الأمناء للنظر فيها والخروج بأفضل الحلول.
سادسا: لا أدرك حقيقة السبب الذي يجعل منيرة وربما غيرها من الإخوة والأخوات الأعزاء ينظرون إلى أن قرارا بإغلاق تخصص معين في الجامعة أو في أية مؤسسة أكاديمية أخرى لتحقيق مصلحة عامة يعتبر انتقاصا من المؤسسة أو من التخصص نفسه أو ربما القائمين عليه!! فالأصوب هو أن قرارا من هذا النوع إنما يرتقي بالمؤسسة الأكاديمية والعاملين فيها لما يعكس حرصها على التعاطي الإيجابي مع الاحتياجات الفعلية في سوق العمل. فكما مرت الإشارة فإن هذه المؤسسات لا تعلم أو تدرب لمجرد التثقيف وهو هدف نبيل بلا شك وإنما لتعمل ايضا على تزويد المجتمع بالكوادر المؤهلة القادرة على المساهمة الفعلية في بناء الحائط الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
أما فيما يتعلق بالاستفسارات الأخرى التي أوردتها في مقالها، فأوجز القول في الآتي:
أولا: بالنسبة إلى ما أسمته الأخت الكريمة «جحافل الخريجين» الذين ينضمون إلى صفوف العاطلين عن العمل سنويا، فلعلها قرأت ولو بصورة خاطفة المشروع المشترك بين وزارتي التربية والتعليم والعمل والشئون الاجتماعية لإعادة صوغ نظام التعليم والتدريب بما يتوافق والحاجة القائمة في سوق العمل المحلية وبما يكفل تزويد أنظمة التعليم والتدريب بالمرونة الكافية للتعاطي مع مختلف التغيرات التي تطرأ على سوق العمل بصفة مستمرة بحكم طبيعتها في النمو والتطور، وذلك بدمج التعليم والتدريب تحت مظلة إطار وطني موحد للمؤهلات المهنية وتحت مسمى «نظام التعليم والتدريب المهني». هذا المشروع من وجهة نظرنا كفيل برفع كفاءة الخريجين ومهاراتهم وقدراتهم على أداء العمل، وبالتالي تسهيل عملية دخولهم في سوق العمل من دون الحاجة إلى إنفاق الأموال الطائلة على عمليات إعادة التأهيل من جانب الحكومة، ومن دون الحاجة إلى إنفاق سنوات من عمر أبنائنا وبناتنا للحصول على شهادة أو مؤهل لا يمكناهم من الحصول على وظيفة تضمن لهم حقهم في الحياة الكريمة.
ثانيا: إن معهد البحرين للتدريب والأمر غير خاف على العامة يمر حاليا بعمليات إعادة هيكلة وصوغ لمناهجه ومقرراته بالاشتراك المباشر مع أصحاب الأعمال بهدف رفع كفاءة مخرجاته بما يتناسب وحاجة أصحاب الأعمال أنفسهم. والجهود المبذولة في هذا الإطار أكثر من أن تذكر في هذه العجالة، لذلك، فإننا لسنا في حاجة إلى إغلاق المعهد، علما بأن مخرجات معهد البحرين للتدريب في الوقت الحالي تلاقي قبولا جيدا من قبل أصحاب الأعمال لارتباط التخصصات التي يدرب عليها المعهد بالحاجات الفعلية في سوق العمل والتي تم تحديدها سلفا من خلال الدراسات بالاشتراك مع ممثلي القطاعات المعنية.
ثالثا: العمالة السائبة هي من بين الموضوعات التي حققت فيها الوزارة من خلال اللجنة المشتركة مع وزارة الداخلية الكثير من المنجزات. بيد أن ما ينبغي أن تلتفت إليه الأخت الفاضلة، هو أن مشكلة كمشكلة العمالة السائبة هي نتاج تراكمات عبر السنين، فلا يمكن حلها في طرفة عين، بل إنه من غير العملي أن يتوقع أي فرد ذلك، فضلا عن دكتورة متخصصة في علوم الاجتماع.
رابعا: إشارتي إلى الخريجات من دون الخريجين ليس لها أي مغزى سوى أن العاطلات في هذا التخصص واللاتي يراجعن الوزارة كلهن من الإناث، فهل تتوقع الأخت الكريمة مني أن استخدم ضميرا ذكوريا لمخاطبة الإناث؟ وعلى أية حال، فإنه إذا كان هناك من مغزى آخر فإنني بكل أسف أجهله، ولعلها أكثر علما به مني لكني ربما أشير إلى أنني كنت من أشد المؤيدين لقرار تعيين عدد من أخواتنا الكريمات عميدات في الجامعة خلال اجتماعنا الأخير.
ختاما، لابد أن أشير إلى أمرين في غاية الأهمية، أولهما هو: ضرورة أن نتفهم وأن تتفهم الفاضلة حجم المعاناة التي تعاني منها الخريجات في هذا التخصص وكذلك الحال بالنسبة إلى الخريجات والخريجين في التخصصات الأخرى التي ينطبق عليها الحديث نفسه، فهي معاناة نلمسها يوميا، ونلمس الألم والأسى في وجوه أبنائنا وبناتنا الذين نقف شبه عاجزين أمام ما يطمحون إليه بعد أن أمضوا سنين من عمرهم في الدراسة والتحصيل، ولاسيما أنها أشارت في مقالها المذكور إلى أنها لا تنكر تجاوز العدد المطلوب لما هو معروض من وظائف في سوق العمل، حين قالت: «نحن في الجامعة نعترف بأن برنامج الخدمة الاجتماعية تجاوز العدد المطلوب لما هو معروض من وظائف في سوق العمل». أما الأمر الآخر، فهو اتفاقي مع فخرو في ضرورة وجود سياسة واضحة ورغبة جادة في إصلاح التعليم، ذلك أن نجاح أي بلد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا إنما يعتمد بالدرجة الأساس على نجاح أنظمته التعليمية والتدريبية. ونسأله تعالى أن يوفقنا لخدمة هذا البلد العزيز وأبنائه الكرام
إقرأ أيضا لـ "مجيد العلوي"العدد 550 - الإثنين 08 مارس 2004م الموافق 16 محرم 1425هـ