في أحدث تقرير صدر عن منظمة «الفاو» التابعة للأمم المتحدة أشار إلى نمو الفجوة العالمية بين الفقراء والأغنياء. وحذر التقرير من استمرار نمو تلك الفجوة في توزيع الثروة العالمية بعد أن لاحظ أن التفاوت يزداد سنة بعد سنة بدلا من أن يتقارب النمو وتتحسن معدلات توزيع الثروة. وخلال الفترة الفاصلة بين 1960 و1997 بات أكثر من نصف سكان الأرض لا تتوافر لديهم الخدمات الصحية والاجتماعية والتربوية، وان نحو 40 ألف شركة (متعددة الجنسية) تسيطر على أكثر من ثلثي التجارة العالمية.
العولمة إذن في معناها الاقتصادي - المالي وفي مستوى نسبة توزيع الثروات لا تعني بالضرورة هي تقريب الطبقات من بعضها بعضا. إنها تعني تطور نظام الاتصالات والمواصلات وإدخال الإعلانات (الدعايات) إلى البيوت والترغيب في شراء سلع ومنتوجات الشركات العابرة للقارات ومنافسة الشركات الوطنية (والمصارف أيضا) الصغيرة نسبيا واحتكار السوق والسيطرة على نظام التبادل (التجارة) والقدرة على الإنتاج. فالعولمة في جانب من جوانبها تبدو أنها تسرع في تنظيم الاحتكار وإحكام القبضة الحديد على ثروات الشعوب في العقود القليلة المقبلة.
العالم إذا يتقدم في صور من صوره ويتراجع في جوانب أخرى وخصوصا تلك المتعلقة بالصور الإنسانية والمساعدات وتطوير الدول لتكون قادرة على الوقوف والوفاء بالتزاماتها تجاه شعوبها.
كل المؤشرات تدل على أن الهوة تتسع والفجوة تتضخم على مستوى توزيع الثروة بين الأمم (الدول) أو بين الشركات (المحلية والعالمية) أو بين الطبقات على المستوى المحلي أو الطبقات على المستوى الدولي. فالخط البياني يشير إلى تعاكس الأرقام بين الارتفاع من جهة والهبوط من جهة أخرى. فمثلا الثروة المالية (النقدية) في العالم تتضخم ولكن توزيعها يتراجع إذ أشار تقرير «الفاو» إلى أن ثروة 200 رجل في العالم تفوق ألف مليار (تريليون) دولار، وأن ثروة 476 مليارديرا تساوي دخل 50 في المئة من سكان الأرض. أي أن ثروة 500 إنسان تقريبا في العالم تعادل ثروة ثلاثة مليارات إنسان على وجه الأرض.
الأرقام ترتفع والمداخيل تهبط. فمثلا أرقام التجارة العالمية تتضخم ولكن أعداد الدول والشركات المستفيدة من هذا النمو تتقلص. الإنتاج العالمي يزداد ولكن الفقراء في الجهة المقابلة يتزايدون. الاستهلاك في كل دول العالم يرتفع إلا أن القوى المستفيدة من نمو حجم القوة الشرائية يتراجع ويتقلص ليستقر في جيوب وصناديق أقل من 500 إنسان في العالم وحسابات 40 ألف شركة دولية.
الأزمة إذا عالمية وليست عربية. والمشكلات التي تعاني منها الدول العربية ليست حصرية بل هي شائعة شيوع الطمع والاحتكار وحب التسلط والسيطرة على الإنسان ومستقبله.
الأزمة عالمية وهي تشير إلى نوع من الرفاهية والاستهلاك في جانب في مقابل سلسلة حالات من التراجع على مستويات مختلفة. فالمال كما يزيد ونوعا يقل توزيعه بين البشر. وهذا التضارب (التعاكس) بين معدلات نمو في جانب ومعدلات هبوط في جوانب سيؤدي إلى كوارث إنسانية واضطرابات سياسية وانهيارات اجتماعية... وبالتالي المزيد من العنف والإرهاب.
المشكلة إذا ليست عربية - إسلامية وإنما هي في أساسها انعدام العدالة في العالم ونمو نزعة النهب والاحتكار والتسلط. وهذه النزعة تضخمت وانفجرت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي. فالسقوط السريع والمهين أعطى إشارات خضراء لقوى الاحتكار والنهب والتسلط للتشجيع على الحروب للهروب من الالتزامات الأخلاقية تجاه شعوب تملك ثروات طبيعية ولكنها لا تملك قدرات على استخراجها والاستفادة منها.
لا شك في أن العالم يتحول ويتقدم... والتقدم على مستويات الاتصالات والمواصلات نجح في تقريب دول العالم إلى بعضها بعضا لكنه أسهم أيضا في توسيع الفجوة وتضخيم الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم وفي كل بلد من البلدان العربية وغير العربية.
البشرية تتقارب ولكن الإنسانية تتراجع، فحتى تلك المساعدات التي كان يتصدق بها الغرب على دول العالم الثالث لمكافحة الشيوعية في زمن الاتحاد السوفياتي تقلصت وأعيد توظيف الفائض منها (أو المقتطع) في صناعات الأسلحة لتدشين المزيد من الحروب. فالحروب اقتصاد بينما المساعدة هي مجرد استنزاف لثروة. إنه عالم مقلوب والعولمة سائرة باتجاهه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 550 - الإثنين 08 مارس 2004م الموافق 16 محرم 1425هـ