استمرار الحديث عن الدستور البحريني أمر طبيعي نراه في مختلف البلدان المتقدمة وغير المتقدمة، ولا خلاف في ذلك، إنما الخلاف هو في طريقة التعاطي، بين من يرفض الدخول في الإطار الدستوري القائم وبين من يدخل الإطار الدستوري ويواصل الحوار السياسي الدستور مادة غنية للحوار السياسي مهما يكن الموقف منه، وليس هناك موقف صحيح مئة في المئة أو خطأ مئة في المئة.
عندما بدأ الحديث في مطلع العام 2002 عن طريقة اصدار الدستور كان عدد من المثقفين الخليجيين في البحرين. وأبرز شخصية خليجية طرحت موقفها هو المفكر القطري علي الكواري الذي إليه تعود المصطلحات التي أصبحت متداولة منذ مطلع العام 2002 حتى الآن. فقد كان هو أول من تحدث عن «دستور عقد» و«دستور منحة»، وكان ذلك في ندوة عامة وعدة ندوات خاصة مع المثقفين والناشطين. ومن ثم أصبحت المصطلحات التي استخدمها الكواري اللغة السياسية الرئيسية المتداولة من قبل الجمعيات السياسية المقاطعة حتى يومنا هذا.
لا يوجد إشكال على التحليل الأكاديمي الذي تقدم به الكواري ولا على اعتماده بصورة مباشرة وكبيرة من قبل المعارضة، فهو قائم على أسس فكرية متينة. الإشكال هو في طريقة التعاطي مع المفاهيم والاستراتيجية التي ينبغي على مختلف الفرقاء اتباعها.
من الناحية النظرية فإن كثيرا من الدساتير توجد على الساحة وهي بين الانموذجين وليس بالضبط «عقدا» أو «منحة». أحد الخبراء الدستوريين المستقلين تحدث عن الدستور الأميركي قائلا: إن 3 في المئة فقط من الشعب الأميركي الاساسي (13 ولاية) صوت على الدستور الذي أصبح ملزما للجميع. ثم ان هناك ولايات أخرى تم شراؤها او اخضاعها بالقوة للدستور الذي وافق عليه الثلاثة في المئة فقط ومازال معمولا به إلى حد الآن في 50 ولاية.
الدستور الإيراني لديه نموذج آخر، فهو دستور جاء بعد ثورة شعبية عارمة. وكان الشعب الإيراني مستعدا لتوقيع أي شيء يباركه الإمام الخميني «قدس سره». وفي حديث مع أحد الأشخاص الذين شاركوا في المراحل الأولية وفي الإعداد للدستور، قال: إن عدة مواد دستورية طرحت ولم يناقشها أحد لأنها حملت اسم الإمام الخميني لاسيما االمواد المتعلقة بمبدأ ولاية الفقيه التي اقترحها آنذاك الشيخ حسين علي منتظري في اواخر ايام الجمعية التأسيسية ووافق عليها الحضور من دون مناقشة حقيقية. وعلق على ذلك بأن شخصية الإمام الخميني وأسمه في أي مادة أو الاشارة إلى موقعه كانت كافية لأن تمنع أي شخص عن مناقشة أي موضوع. والحديث الذي يدور حاليا في إيران هو ضرورة التعديل الدستوري واعادة تأطير تلك المواد نفسها وتقليل صلاحية ولاية الفقيه وتحديدها بمدة زمنية يتم انتخاب (او اعادة انتخاب) الفقيه، وهو الجدل القائم بين المحافظين والاصلاحيين. واختلف الاصلاحيون خلال الانتخابات الأخيرة بين فريق يقوده الرئيس محمد خاتمي يؤمن بضرورة العمل من خلال الإطار الدستوري الحالي، وبين من أعلن مقاطعته البرلمان لاعتقاده باستحالة التأثير من خلال الاطار الحالي.
الدستور العراقي المؤقت أيضا يواجه اشكالات مشابهة، فهذه الوثيقة وعلى رغم أنها مؤقتة فإنها ستؤسس للدستور الدائم وهي برعاية المحتل تماما كما تأسس الدستوران الياباني والألماني تحت الاحتلال.
ان اللغة السياسية لايمكن حصرها في جانب واحد من المعادلة لأن هناك جوانب كثيرة ينبغي أخذها في الاعتبار. ومهما يكن الأمر فإن الواقع يفرض نفسه، والتعامل مع الواقع لتطويره في بعض الأحيان أفضل من التعامل مع النظرية البحتة. وهذا لا ينفي الحاجة إلى الحديث عن الدستور بأي حال من الأحوال، فحتى بريطانيا التي لها دستور (غير مكتوب) ومستمر منذ قرابة 7 قرون مازال السياسيون هناك يتحدثون عن ضرورة التحديث الدستوري، والاختلاف فقط في طريقة التعاطي
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 550 - الإثنين 08 مارس 2004م الموافق 16 محرم 1425هـ