العدد 549 - الأحد 07 مارس 2004م الموافق 15 محرم 1425هـ

امرأتان عند معبر التاريخ

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

حينما طلب مني ابني تزويده ببعض الصور الفوتوغرافية للنشاطات الطلابية التي كنا نمارسها، وتحديدا تلك التي عاصرتها وساهم الجميع بممارستها من خلال الاتحاد الوطني لطلبة البحرين - فرع الكويت، قلبت بين ثنايا ألبومات الصور التي علاها الغبار ولم تأخذ دربها للانقراض، هي ما تبقى وما استطعت العبور بها تجاوزا لمرحلة القمع الذي عاصرها المجتمع آنذاك، تربعت لأتفحص الوجوه التي اكتسى محيا بعضها البراءة، وأخرى ملامح غاية في الجد، التف الشريط من مخزون الذاكرة، وتوقفت عند محطة هي من بين جميع الصور التي تقافزت فوق جذور المحظورات في فترة كلف البعض امتلاكها أمورا كثيرة ليس أقلها منعا من السفر تراوح ما بين السنتين وامتد أحيانا حتى الثماني سنوات، أو التحقيق في دهاليز غرف الظلام الفاسدة، التي أدت بالبعض إلى زنازين المعتقلات التي لا ترحم. على أي حال، زمن مضى، لا يتمنى أي منكم أبد الدهر العودة إليه.

من الصور جمعيها ينقض وجهان متلازمان من الأزمنة المنقضية، وللمصادفة أحكامها، تموقع أحدهما في أسفل الصورة بالضبط على يمينها، أتذكر جيدا، لم تكن من تلك التي أخذها لنا المصور الفلسطيني الملازم للاتحاد «أسعد»، هي من كاميرا أحد الطلاب، الوجهان لفتاتين تعبران الذاكرة، تخترقان النهر، إنهما على ضفاف البال، صديقتان للجميع، هما «نادية شحاته دعيبس»، و«عزيزة البسام»!

لا نريد الاتكاء على الجروح، لكنه ذلك الإصرار على أن نطأ أرض الذكريات المتدحرجة بين مناورات ماض وحاضر ندرك مدى عمق قسوته، اختفى الخوف، وغاب الرعب، وكان لزاما الرجوع إلى الوراء قليلا، فهناك ما برحت أمور في غصة العمق. الرجوع، وتحديدا قبل ثمانية وعشرين عاما، أي أكثر من ربع قرن زمني من عمري وأعماركم، شبابنا جميعا، والأهم تلك الحياة القصيرة للشابة الإنسانة الفلسطينية الشهيدة «نادية شحادته دعيبس»، هي من مواليد البحرين، فلسطينية الأصل، تعرفت عليها في جامعة الكويت في السنة الدراسية الأولى، كانت تدرس في كلية العلوم في سنتها الثانية، يقارب سنها آنذاك سن ابنتي الآن، تظهر حيوية ونشاطا متوقدا، شخصية متينة عصية على الكسر، وردة، تستطيع أن تشعر بها شعلة، طائرة بجرأتها دائمة التحليق بين طلاب وطالبات الاتحاد العام لطلبة فلسطين والاتحاد الوطني لطلبة البحرين في جامعة الكويت، أسرّ لي طالب قيادي بأنها منحت عضوية مزدوجة في الاتحادين، على رغم الحصار، وعلى رغم المغريات بحكم إقامتها في بلد خليجي، إلا أن قلب فلسطين وأرضها لم يفارقها أبدا، روح نضالية عالية، حماس يبهر من يجالسها، كنت وغيري في حال اشتياق للحديث معها، فهي بالنسبة إلى الجميع إنسانة مميزة، لم تظهر انتماءها السياسي، وهذا أمر طبيعي، بسبب التربية الحزبية وظروف العمل السياسي السري وقتها، حتى سقطت المفاجأة على رؤوسنا، وكان الجميع في حال من الاندهاش، لم نستطع البكاء عليها ما يكفي، حتى تبينت وتشابكت لنا الخيوط عندما تبنت ونعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين استشهاد إحدى مناضلات الجبهة في عملية فدائية تمت في مطار «عنتيبي» بكينيا، وكان ذلك في العام 1976، إن مشاهدة جسدها ملقى على أرض المطار حينما تفجرت الطائرة، يشرح الدلالات العميقة ويختصر تاريخ نضال الشعب الفلسطيني، وموته المجاني بسبب الاحتلال، هل نقول عنها صدمة، أبدا لا أعتقد، فعندما تتلقى خبرا عن أية عملية استشهادية، ومقاومة عند معابر الحدود العنصرية، أو في قعر الأرض المحتلة فلسطين، تطل عليك دوما تلك الوجوه الفلسطينية التي تعرفت عليها وسارت في درب التضحية، من المؤكد أنها تضعك في حال من عدم الإغفال عن الكيفية التي خرج بها ذلك الإنسان حاملا روحه على كفه، يقاوم التداعي ويقاوم التكلس، هكذا شرحت لنا «نادية دعيبس» رؤيتها بالتفصيل، وببداهة لا تقبل المهادنة، هكذا كشفت في زمننا عن أقنعة الصمت، وتركتها عارية، لعل وعسى أن تبقى جذوة الشعلة متقدة. كم هو مخجل هذا الموت، هذه القوافل من الفتيات والفتيان الفلسطينيين الذين يقاومون وجود العدو الصهيوني ويستشهدون يوميا في مقاومة تبدو لا نهائية، هم الجمر تحت الرماد طالما بقت أرض فلسطين العربية أرض احتلال.

نادية لم تكن طالبة شابة عادية في الجامعة، فهي شغوفة بالقراءة، على دراية تامة بما يحدث حولها لحظة بلحظة، تحلل، وتعرف جيدا ما هي صلة الرحم بين «البيت الفلسطيني» و«البيت البحريني»، في الأرض التي عاشت عليها عمرها القصير، نادية لم تكن أبدا عادية، ولذلك نحن لا ننساها، فطالما حرصت على تراث شعبها، حتى في إحضار المناقيش بالزعتر الفلسطيني، وفطائر اللحم بالعجين المخبوزة من بيتهم الفلسطيني في البحرين، كانت حديدا صعبة المراس، إنها مدرسة نضالية تعلم جيل الشباب أول دروس «الوفاء بالعهد»، الحزن عليها لم يكن واضح المعالم عند البعض، وهذا بديهي لمن كان ولايزال يشكك في أساليب المقاومة النضالية، نادية تعرفنا بأن العدو الصهيوني لا يعرف إلا لغة وحيدة هي لغة السلاح والمقاومة، اللذين حملتهما وهي تحلم بالوطن الذي تضخم في غربتها ولم تسعها أوطان الدنيا، فثمة وطن وحيد صاخب في ضمير من تشرد وعذب واغتصبت أرضه، إنه فلسطين.

وعلى السياق ذاته، وبزخم وكثافة، نستعيد العافية عندما نوصل رتق تلك الذكريات والحوادث بحاضرنا، إذ ثمة أقمار وشموس، وصخب كالرعد، ودفق يتفجر من الأعماق، ودفع كالريح، ينتاب أيا منا وهو يتفقد الوجه الآخر، إلى التي انتهت مقهورة بغصة في قلبها، تلك «عزيزة» الصلدة العصية على الكسر، لم يفلح معها التهديد والوعيد، ولا المغريات، ولا قطع الأرزاق، والتهميش والتهويش كما حال المناضلات والمناضلين في هذا الوطن، لا، كل ذلك لم يفلح، فهي التي انتصبت شاخصة كساق نخلة امتدت إلى أبعد الأعماق، في قاعة مقر جمعية نهضة فتاة البحرين النسائية، لتعلن وتؤكد طلاقها الأبدي مع الظلم والقهر والاستبداد، انتصبت تستنكر عمليات الاعتداء الإجرامية التي مورست على أبناء شعبنا، لم تفقد بوصلتها أبدا، حتى بين جنبات التراب الذي أوى نهاية عمرها القصير، لا بل هي من وجهت بوصلة الجميع بهزة عنيفة، وأعلنت طليعتها لمن رغب في اللحاق بها، تسجل بشرف موقفا تاريخيا لا يغفل هو الآخر كما نادية عن حب الوطن، وتحدي الظلم، وضد الفساد والانحلال والاحتلال في كل تجلياته وأشكاله.

في استذكار شهيدات الحق، نادية وعزيزة وغيرهما من النساء، نستعيد بعضا من العافية، ونفيق من لحظة الغفلة، ونعرف حقوق الأوطان علينا، والتمسك بقضاياه، ونعلنها صرخة ضد سياسة اغتصاب الوطن واحتلاله، ضد التطبيع، وضد الجدار العنصري الذي تتحدى به «إسرائيل» شريعة حقوق الإنسان في العالم، ضد الفساد والسرقات النهارية في أرضنا، وضد أي احتلال باسم الديمقراطية على أسنة العدو الذي يقتل شعبنا في فلسطين وينهب العراق وكل خيرات وطننا العربي، ودائما مع الحق والخير والسلام في يوم المرأة!

عام على كل النساء، والمظلومات والمعدمات بكل خير ومحبة

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 549 - الأحد 07 مارس 2004م الموافق 15 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً