قبل أكثر من 947 سنة طلع
الشاعر الفيلسوف الزاهد في معرة النعمان بقصيدة تنتقد الحاضر الإسلامي فقال: «يا أمة ضحكت من جهلها الأمم».
آنذاك كان أبوالعلاء المعري يصف حال المسلمين في عصر تشتتت خلاله دولة الخلافة وتوزعت مراكزها بين العراق (العباسي) ومصر (الفاطمية) وقامت بينهما سلسلة دويلات حكمتها الأسر في الكثير من مدن الشام. آنذاك كان المعري يشتكي من الأوضاع العامة والتمزق الذي أصاب الأمة وظهور تيارات غير عقلانية تزيد الهم هما والتخلف تخلفا.
وبعد أقل من نصف قرن على قصيدته اجتاح الفرنجة بلاد الشام واستباحوا المدن وارتكبوا المجازر ضد المدنيين في أنطاكية وطرابلس وصور وعكا وصولا إلى بيت المقدس. وهناك ذبحوا أكثر من 70 ألفا واجتاحوا الأحياء المسيحية واليهودية والمسلمة وحولوا المسجد الأقصى إلى اسطبل للخيول.
تحدث المؤرخون كثيرا عن حروب الفرنجة وأعطوها الكثير من التفسيرات والتأويلات وشرحوا أسبابها ودوافعها الاقتصادية والسياسية، ولكنهم لم يقاربوا المسألة النفسية وعمليات التجييش التي سبقت تلك الحروب وألبت الشعوب الأوروبية ضد الإسلام والمسلمين.
تحدث المؤرخون كثيرا عن أسباب تلك الحروب ودوافع ارتكاب المجازر إلا مذبحة واحدة احتار الباحثون في أمرها نظرا إلى شدتها وبشاعتها. آنذاك ومن جملة المدن والبلدان التي اجتاحها الفرنجة كانت معرة النعمان (موطن المعري). ففي تلك البلدة فاقت البشاعة حد التصور إذ حرقت النساء وشوي الأطفال بسكاكين اللحم. وحتى الآن لم يُقدم تفسير واضح يحدد دوافع تلك المجزرة في معرة النعمان. فالمعري آنذاك لم يكن معروفا في أوروبا (القرون الوسطى) و«رسالة الغفران» التي استنسخت وترجمت إلى اللاتينية لاحقا وتأثر بها دانتي في «الكوميديا الإلهية» لم يكن يعرفها الغرب.
حاول المستشرق برنارد لويس (مؤيد للكيان الصهيوني) أن يلقي الأضواء عليها في كتابه عن الحركة الاسماعيلية من دون أن ينجح في تفسير ظاهرة القتل الجماعي للناس. لويس ربط في كتابه المذكور بين الإسماعيلية والحشاشين، وذكر أن الحشاشين (معرة النعمان من مراكزهم) قادوا آنذاك حملة اغتيالات ضد قادة حملات الفرنجة ونجحوا في تنفيذ سلسلة عمليات فدائية ضد مواقعهم ومعسكراتهم في بلاد الشام. ويذكر لويس أن مفردة الحشاشين انتقلت إلى الانجليزية ومعناها في اللغة القتل أو الاغتيال. والحشاش (Assassin) تعني القاتل السفاك والمتعصب. ومن الحشاش اشتقت مفردة (Assassinate) أي يغتال ويشوه، كذلك مفردة (Assassination) التي تعني اغتيال.
حاول لويس أن يربط بين الفعل وردة الفعل، أي أن المجازر البشعة كانت ردا على عمليات اغتيال وهجمات فدائية انتحارية (استشهادية) وبالتالي ربما تكون المذبحة التي وقعت في معرة النعمان ردة فعل على أفعال قام بها الحشاشون ضد قوات الفرنجة. مضى على كلام لويس أكثر من 40 سنة ورُد عليه كثيرا وخصوصا محاولاته الربط بين الاسماعيلية والحشاشين وبالتالي تأسيس علاقة واهية بين الفعل وردود الفعل. وكلامه غير صحيح أو غير دقيق لأن المجازر بدأت قبل دخول الفرنجة بلاد الشام وهناك شواهد تاريخية تؤكد أن عشرات المذابح ارتكبت في الطريق من بلغراد (صربيا) إلى أنطاكية، وبالتالي فإن عمليات الحشاشين كانت ردا على المذابح وليس العكس.
حتى الآن لم تتضح معالم مجزرة معرة النعمان وأسبابها ودوافعها سوى الحقد والكراهية ضد الآخر (الغريب والمختلف). وأساس تلك الكراهية حملة التحريض الرهيبة التي قادها رجال الدين والسياسة في أوروبا آنذاك ضد الإسلام والمسلمين. فحروب الفرنجة بدأت في أوروبا قبل أن تنتقل إلى بلاد الشام ونجحت المراجع السياسية والدينية في القرون الوسطى في تفجيرها بعد عقود من التعبئة ضد المسلم العنيف والارهابي والمتوحش والمتخلف. وبناء على نشر أسطورة المسلم الهمجي والتخويف منه تأسس الحقد واتسع نطاق الكراهية، الأمر الذي مهد الطريق لاندلاع الحروب التي استمرت أكثر من قرنين.
الآن يتكرر المشهد نفسه بعد مرور حوالي ألف سنة على بدء حروب الفرنجة. الكلام نفسه يتكرر عن المسلم العنيف والارهابي والمتوحش والمختلف. والكلام نفسه يعاد إنتاجه عن ضرورة تربية المسلم وإصلاحه وتحديثه وتطويره ليتناسق مع قيم العصر وعصر العولمة. ومن يراقب زلات لسان بوش وتشيني ورامسفيلد وأحيانا كلمات بلير عن الارهابيين وشيراك عن الحجاب وبرلسكوني عن تخلف الحضارة الإسلامية يفهم الرابط الخفي بين التحريض وما حصل في معرة النعمان قبل ألف سنة. إنهم يضحكون علينا بالمشروعات ويستعدون لحروب تشبه تلك التي وقعت حديثا في أفغانستان والعراق وفلسطين. أما الدول العربية فإنها تضحك على نفسها من كثرة جهلها بالآتي... فشر البلية «يا أمة ضحكت من جهلها الأمم»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 548 - السبت 06 مارس 2004م الموافق 14 محرم 1425هـ