العدد 547 - الجمعة 05 مارس 2004م الموافق 13 محرم 1425هـ

تأملات في واقع العراق والمنطقة

بعد مجزرة العاشر من محرم

سلمان عبدالحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب

حادث تفجير مشهد الإمامين الحسين بن علي (ع) وموسى الكاظم (ع) في يوم العاشر من محرم، وسقوط مئتي شهيد ومئات الجرحى، هو الحادث الثاني المؤلم والمروع بعد حادث استشهاد آية الله السيد محمد باقر الحكيم (قدس)، وفي توقيت هذا الحادث بعد الحادث الأول دلالة عميقة جدا، لأن فيه قطعا قهريا للعملية السياسية على مستوى التيار الشيعي في العراق، واستهداف واضح لموقعية وثقل هذا التيار في الساحة العراقية، ومحاولة إخراجه من إيقاعه السياسي الذي يستهدف انتزاع السيادة على الأراضي العراقية من المحتلين بهدوء، إلى الحرب الأهلية التي تبعده عن هدفه وحقوقه المشروعة.

طبيعة الحرمان الذي عاناه التيار الشيعي طوال فترة حكم صدام حسين، والتي فقد فيها أقل حقوقه السياسية المعتبرة، وأصبح مهددا في حياته ورزقه وعرضه، لا تجعل من هاتين الجريمتين في أبعادهما السياسية وليدة أبناء الشعب العراقي الأسوياء من الطائفة السنية الكريمة، لأنهم عانوا من تمييز وظلم مماثل، ولا يمكن أن تكون هاتان الجريمتان من تدبيرهم أبدا، بل هما محصورتان حصرا في الولايات المتحدة الأميركية، وأعوانها من الطالبانيين والمنتمين لتنظيم القاعدة.

لكن هاتين الجريمتين يقينا ستدقان ناقوس الخطر، لأن حجم الحرمان والتمييز والتغييب القهري عن المشهد السياسي للتيار الشيعي لا يحتمل معه تغييب وحرمان آخر، وإلا فالأفضل لهؤلاء الناس المقهورين المظلومين أن يموتوا بدل هذا السحق المستمر لحياتهم وكرامتهم. وحجم التآمر الذي تبديه الكثير من الأنظمة العربية على الخيار الديمقراطي الحر للشعب العراقي، يجلي موقف الاستهداف المباشر لوجود وكيان التيار الشيعي، وببشاعة منقطعة النظير، وقد وجب من الآن وضع النقاط على الحروف في ثلاثة محاور رئيسية تحكم إيقاع الملف العراقي والمشهد السياسي للمنطقة ككل، لأن الشعوب لن تقبل أن يكون خيار المنطقة مقادا إلى المجهول.

الأول: حقيقة تنظيم القاعدة، وعلاقته بالخيارات الأميركية الكبرى في السيطرة على مقدرات الأمة.

الثاني: التواطؤ العربي مع الخيار الأميركي، في ظل العجز عن حماية المقدرات الوطنية واستقلالية الأوطان.

الثالث: حقيقة الديمقراطية التي تريدها الولايات المتحدة الأميركية، والموقف من تدخلها المباشر في الشئون الداخلية من خلال مؤسساتها غير الرسمية.

هذه المحاور الثلاثة قد تكون صلب السياسة الأميركية، إذ لم يعد يشفي غليل الإدارة الأميركية أن يكون لها وسطاء ينفذون سياستها، لأن الشعوب مازالت على ممانعتها في قضايا كثيرة، وأهمها قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني، إذ إن سنوات من الإذلال والحرمان والمسخ لهوية الشعوب، وتضييع كرامتهم وذبحها على مسلخ الإهانات المتكررة والاحتقار اللامحدود لخياراتهم السياسية في تقرير مصيرهم ومشاركتهم في أعباء الحكم، لم تمح من ذاكرة الشعوب كونها شعوبا حرة تمتلك ضميرا حيا على الأقل لإحياء صور الممانعة في قضايا كثيرة، في ظل عدم امتلاكها الإرادة السياسية في تغيير أوضاعها.

لذلك، فإن الهدف من التدخل الأميركي المباشر في الأوضاع الداخلية للبلدان العربية بحجة الديمقراطية والإصلاح هو سأم الأميركان من الحكام العرب (الوسطاء) في إمكان تطويع شعوبهم طوال فترة حكمهم الأزلية لهذه الشعوب، ولابد للأميركان من أن يرموا بثقلهم في الساحة العربية، وأن يتقربوا للشعوب من خلال مؤسساتهم غير الرسمية، بغية إحداث خلل استراتيجي في البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية لهذه الشعوب، لتكون متقبلة لما يمليه الأميركان على شعوب هذه المنطقة. هذه الأرضية مهمة جدا لمناقشة الوضع في العراق والمنطقة وفق المحاور الثلاثة المذكورة.

أولا: تنظيم القاعدة وعلاقته بالخيارات الأميركية الكبرى في السيطرة على مقدرات الأمة: هنا لابد من مقدمة تاريخية مهمة، فقبل غزو العراق الكويت، كان هناك جدار عازل في السياسة العربية على مستوى العلاقة بين العرب والكيان الصهيوني، وإن كانت العلاقة السرية مفتوحة على مصراعيها، وكان هناك جزء من شعارات الممانعة السياسية للكثير من القضايا، وكانت هناك حركة حياد وعدم انحياز تجاه قضايا أخرى، وكلها في الدائرة الظاهرية للسياسة العربية، بما يعطي نوعا من الهيبة والكرامة للحكام العرب كأسياد في بلدانهم، وإن كانت المواقف السرية عكس ذلك.

كان هذا الجدار الوهمي حاجزا أمام أي تدخل مباشر وواضح وفاضح للإدارات الأميركية المتعاقبة في الشئون العربية على رغم التدخل بشكل غير معلن، إلا أن هذا القدر من الحواجز لم يكن يكفي الإدارة الأميركية لتحقيق سياستها وأهدافها في السيطرة على مقدرات المنطقة، لذلك كان لابد من إسقاط هذا الجدار، وضرب الممانعة الوهمية إزاء الكثير من القضايا، وكشف قناع الأنظمة الواحد تلو الآخر في علاقتها السرية بالكيان الصهيوني، وإذعانها التام للسيد الأميركي، فجاء احتلال العراق للكويت، وجاء بعده سلام مدريد مع العدو الصهيوني ثم سلام أوسلو كتداع ضروري لغزو الكويت، وخصوصا بعد تبرير أميركا لوجودها في المنطقة بشكل عام، وفي منطقة الخليج بشكل خاص بخطر صدام.

لم يكن هذا القدر من الوجود الأميركي في المنطقة لها ولقواعدها ليكفيها في تحقيق مآربها، وخصوصا في العلاقة مع الكيان الصهيوني، إذ لم ينجز شيء يعتد به في تطبيع علاقة الشعوب بهذا الكيان على رغم اتفاقات السلام المبرمة، إذ لم تستطع لا الحكومات والنخب المريضة والمطبعة إقناع الشعوب بشرعية هذا الكيان الغاصب، فكان لابد من ذريعة أكبر لإسقاط الجدار الثاني، وهو استقلالية الأوطان وحريتها في تقرير مصيرها، واختيار ما يناسبها من السياسات والعلاقات، فجاء خيار تنظيم القاعدة بتركيبته الدينية المعقدة والمريضة، وبأحقاده المتواترة على الكثير من طوائف المسلمين، ونزعته غير المشروعة لفرض أحادية في الدين والسياسة، لا تقبل بها النفوس الحرة، التي تعودت التأمل والتفكر في أمور دينها ودنياها كأساس للإيمان والقناعات، جاء هذا التنظيم المشبوه في علاقته بأميركا على رغم عدائه الظاهر معها، كرديف لثنائية علاقة الحكام بالكيان الصهيوني قبل سقوط القناع بغزو الكويت، إلا أنها أكثر تعقيدا على مستوى تشابك المصالح والعلاقات وغموضها أيضا، فحقق هذا التنظيم كل ما تصبو له أميركا، وكل ما عجز الحكام العرب عن تحقيقه، فسقط جدار الاستقلالية، وحانت الفرصة لأميركا لفرض كل أجندتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية على شعوب المنطقة.

كان وصول طالبان لحكم أفغانستان البداية، إذ تردد حينها اسم «بن لادن» وبدأت أسطورته، وجاءت التفجيرات في المملكة العربية السعودية والصومال واليمين وغيرها من البلدان العربية، التي كانت تحت مسئولية تنظيم القاعدة لتعطي الذريعة للأميركان لبلورة مصطلح «الحرب على الإرهاب»، والذي كان موجودا في الكثير من الدراسات التي تقوم بها معاهدها الخاصة قبيل فترة التسعينات وغزو العراق للكويت، كتمويل معرفي وتنظيري لسياساتها العدوانية، وكان التتويج لهذا المصطلح وظهوره إلى العلن هو تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول، إذ دشن هذا المصطلح بداية التدخل الأميركي المباشر في السياسات الداخلية للدول العربية، ودشن الدعوة إلى تغيير المناهج التعليمية وحذف آيات الجهاد من القرآن الكريم، كما دشن عهد المؤسسات الأميركية غير الرسمية في المنطقة، كجزء من الحراك السياسي والاجتماعي المنظور والعلني، وهذه بداية لإعلان سقوط الجدار الثالث، وهو ممانعة الشعوب لأميركا والكيان الصهيوني التي رسمها بكل كفاءة واقتدار الإمام الخميني (قدس) حين وصف أميركا بـ «الشيطان الأكبر»، ووصف الكيان الصهيوني بـ «الشيطان الأصغر» و«الغدة السرطانية» التي يجب أن تزول من الوجود.

كل هذا التأسيس المعرفي والديني والعقائدي سقط سقوطا مدويا بما فعله تنظيم القاعدة وما جناه هذا التنظيم على شعوب المنطقة، ليأتي الاحتلال الأميركي للعراق خارج الشرعية الدولية، وسط تعقيدات وخطط الإدارة الأميركية «إدارة الشر» لجعل مستقبل العراق مبهما ومجهولا، ضمن هذه التعقيدات يبرز لنا تنظيم القاعدة بأجندته الخاصة وأفعاله العدوانية والمريضة التي نفذها سابقا في شيعة أفغانستان، ليستهدف أكبر رمز شيعي يمكن أن يكون الأمل لمستقبل العراق فيغتاله، وهو آية الله السيد محمد باقر الحكيم ضمن استهداف مزدوج في التنفيذ والمصالح المشتركة بين تنظيم القاعدة والبعث البائد والتواطؤ الأميركي الواضح من خلال الاستهتار بالوضع الأمني في العراق وجعله فوضى، ولمن أراد الفتنة أن يصيبها.

يبقى أن الاستهداف الثاني، وهو التفجيرات الدامية في ضريحي الإمام الحسين (ع) والإمام الكاظم (ع) يوم عاشوراء بعد غياب 35 سنة عن إحياء هذه المناسبة العظيمة، له دلالة خطيرة من حيث كونه يضرب التعايش السلمي أولا، والخيارات السياسية على رغم محدوديتها، ودخولها في نفق النفاق الأميركي المظلم، هذا الاستهداف الذي تشم منه رائحة تنظيم القاعدة، وخصوصا مع توارد الأخبار عن وجود انتحاريين في عملية تفجير ضريح الإمام الكاظم، وكذلك تزامن هذه التفجيرات مع تفجيرات في باكستان لمواقع تحيي مناسبة عاشوراء، سيقدم للأميركان أكبر الضمانات للبقاء في العراق، فماذا يمكن أن يقال بعد هذه الرحلة الموجزة في تاريخ هذا التنظيم المشبوه، غير أنه ربيب الأميركان، وأكثر ولاء وتحقيقا لأهدافهم من الأنظمة العربية.

إن وجود مثل هذا التنظيم ووجود ذيول له في البلدان العربية، مازالت تتضخم جراء الامتيازات التي توفرها لها هذه الأنظمة لضرب أي خيار سياسي حر يمكن أن يصعد به الكثيرون من الشرفاء في المنطقة العربية كلها، سيلغي بكل تأكيد التعددية السياسية والخيارات السياسية الإصلاحية على المستوى الإسلامي العربي، وسيبقى يمارس دوره المشبوه على المستوى الداخلي والخارجي، وهذه دعوة لجميع العقلاء والمتنورين من العلماء والفقهاء في العالم الإسلامي، كما كانت لها وقفة مع التاريخ الإسلامي من أجل تصحيحه والمصالحة معه، ورد الاعتبار إلى الكثير من الحوادث التاريخية التي تم تزويرها وتشويهها، فكان أن أصبح الحسين شهيدا وسيد شباب أهل الجنة بإجماع كل المسلمين، وكان أن أصبح يزيد شاربا للخمر مستحلا لحرام الله وحرماته بإجماع كل المسلمين، فيجب أن نتعاطى مع واقعنا الذي توجد فيه هذه الفئات الخارجة عن الإجماع في تفسير التاريخ والحاضر بموضوعية ومصالحة تكفينا شرور هذه الفئة وشرور الأميركان معها. لذلك يجب إعلان أن هذه الفئة الظالمة خارجة عن إجماع المسلمين، وعن حقيقة وحدة الخيار والمصير الذي ينجز من خلال مؤتمرات التقريب المتصالحة مع التاريخ والواقع، ومن خلال الوحدة العملية على أرض الواقع.

ثانيا: تواطؤ الأنظمة العربية مع الأميركان في ظل العجز عن حماية استقلالية الأوطان: قد يكون هذا الموضوع شائكا أكثر من غيره، وخصوصا مع وجود ثنائيتين متقابلتين ومتضاربتين أيضا، الأولى: كون الشعوب تطلب المصالحة مع أنظمتها من خلال مشروعات إصلاحية، بغية حماية هذه الأنظمة وحماية الشعوب من التدخل الخارجي، والثانية: كون الأنظمة مازالت تنأى بنفسها عن شعوبها في ظل وجود تهديد خارجي يطال وجودها واستقلالها في قرارها السياسي، بل إمعانها في التآمر على أي حراك إصلاحي خارج نطاق حدودها خوفا من كسر شوكتها وإرغامها على الإصلاح، كما يحدث الآن في تعاطي الأنظمة العربية مع الملف العراقي، وطبيعة تعقيداته الثنائية والطائفية، ومحاولة الانتصار لفئة من شعب العراق على حساب فئة أخرى، وكأن هذه الأنظمة تمتلك قرارها السياسي لتعطي لنفسها الحق في تحديد خيارات شعوب أخرى غيرها.

الواقع يقول إن مستقبل العراق فيه تحديد واضح المعالم لمستقبل المنطقة العربية ومنطقة دول الخليج تحديدا، والواقع يقول إن أي واقع مشوه للوضع السياسي في العراق سيعطي للأنظمة العربية الأمان في ممارسة استبدادها ضد شعوبها، والواقع يقول إن التجزيء السياسي والطائفي والجغرافي في العراق سينعكس بشكل مباشر على الواقع السياسي العربي في أطيافه والتجزيء والتمييز الذي يمارس ضد فئة على حساب فئة أخرى، والواقع يقول أخيرا: إن عكس كل هذه الخيارات معناه تغيير شمولي في واقع كل الأنظمة العربية وبناها الهيكلية.

هذا ما يفهمه القائمون على العمل السياسي السلمي في العراق أملا في انتزاع السيادة على العراق، وهو ذاته ما يفهمه الحكام العرب في الاتجاه المعاكس، وضمن خيار الشعب العراقي وخيار الأنظمة العربية يأتي الخيار الأميركي كخيار ثالث ورديف ومجاور لكلا الخيارين في ظل واقع عربي متخلف على المستوى السياسي والديمقراطي، يراد منه أن يكون حقل تجارب للأميركان ونماذجهم الديمقراطية، في محاولة لتبيئة الديمقراطية بحسب الظروف الموضوعية لكل بلد، وبما يخدم مصالح الأميركان، ما يعني زوال أنظمة إذا ما افتقدت المعايير الأميركية، وبقاء أنظمة أخرى في حال تحقيقها للمعايير الأميركية في شروطها الدنيا، فيما يأتي خيار الشعب العراقي، والذي يقوده السيد السيستاني كنموذج لتحديد آليات الإدارة السياسية والديمقراطية، وعدم محاولة تشويهها أو فرض نماذج ترقيعية، مع الاحتفاظ بالتوازنات السياسية والطائفية في دائرة حفظ مصالح الأطراف جميعها، وخصوصا أن التجربة في العراق تمر بحال تأسيس بعد سقوط نظام صدام البائد، ولا تؤسس على وضع ترقيعي كما هو موجود في الأنظمة العربية.

هذا المستوى من التأسيس على أرضية جديدة في العمل السياسي هو ما يخيف الأنظمة العربية، وتجعلها تتبنى بشكل خفي خيار تنظيم القاعدة التدميري لكل المكونات السياسية في الحال العراقية، وتدفع باتجاه تطييف الوضع السياسي في العراق، أو فرض نماذج ترقيعية كالموجود في داخل بلدانها، وهي بذلك تلتقي مع الإدارة الأميركية في هذا الخيار، إلا أنها يقينا ستقبل على مستوى الإدارة الداخلية لبلدانها بوضع ترقيعي أكثر من وضعها الحالي، وستتنازل عن كثير من استقلاليتها ومصالحها المؤمن عليها لصالح بقائها في الحكم، وستشهد الأيام القريبة تدخلا مباشرا من قبل الأميركان في الحيثيات السياسية والاجتماعية والثقافية في الأنظمة العربية، بغية تغيير البنية الثقافية والسياسية للشعوب وستهيئ لها الأنظمة ذلك مرغمة أو متواطئة.

ثالثا: حقيقة الديمقراطية الأميركية، والموقف من تدخلها المباشر في الشئون الداخلية عبر مؤسساتها غير الرسمية: مع بدء مشروع «الشرق الأوسط الكبير» في الظهور كأهم أجندة أميركية لمستقبل الأنظمة العربية وواقع الديمقراطيات فيها، تعلن أميركا عن بدء سقوط الجدار الثالث، وهو سقوط الممانعة الشعبية لأميركا وسياساتها، وخصوصا أن أميركا ضربت أعتى نظام استبدادي في المنطقة، وهو نظام صدام حسين، وظهرت بمظهر المحرر، ما يعني أنها هيأت لهذا المشروع بصدمة كبيرة جدا في الوجدان الشعبي، الذي ذاق الأمرين من حكوماته، وفقد كرامته وخياراته السياسية على يديها، لذلك فهذا المشروع متقبل بشكل كبير، سواء على مستوى قطاعات كبيرة من المعارضة، أو على مستوى النخب السياسية الشابة التي بدأت تتشكل بوعي جديدة ورؤية جديدة، تغيب عنها الكثير من الجدر السياسية التي بنيت فيما مضى.

لقد أسست صدمة سقوط نظام صدام حسين إلى حضور المؤسسات الأميركية غير الرسمية على هيئة معاهد ومؤسسات لتنمية الديمقراطية وتعليمها لشعوب المنطقة، كما أسست إلى عدم ممانعة الكثير من قطاعات الشباب من التعاطي مع الأميركان بشكل مباشر عبر المؤسسات الرسمية أو عبر سفاراتهم، وستؤسس مستقبلا إلى صوغ الأميركان للواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي لشعوب ودول المنطقة، كما أرادوا له قبل عقدين من الزمان حين أرادوا إسقاط الجدر الثلاثة، التطبيع مع «إسرائيل»، ضرب الاستقلالية والسيادة الوطنية، وإسقاط الممانعة السياسية في تقبل الكيان الصهيوني والتدخل الأميركي المباشر في الشئون الداخلية.

ولضرب هذا المشروع في الدائرة الشعبية والمعارضة كحد أدنى، يجب أخذ الخطوات الآتية:

الأولى: رسم معالم مشروع إصلاحي نابع من الداخل، ويحفظ التوازنات لكل الأطراف، من دون فرض الطرف الرسمي إيقاعه الحاد وتوازناته الخاصة على هذا المشروع، وخصوصا في ظل تصريحات الكثير من الدبلوماسيين الأميركيين، بأن الإصلاح يجب أن ينبع من الداخل، وهم يريدون بذلك أن يحددوا الإصلاح وفق مقاساتهم التي تحفظ مصالحهم التي أنجزوها في ظل الاستبداد السابق للأنظمة، ووفق مقاسات وحاجات الحكام إلى البقاء في ظل أنظمة ديمقراطية ممسوخة، وهنا يجب تأكيد أن الإصلاحات إنما تنبع من التوافق السياسي بين الأنظمة والشعوب وفق توازنات سياسية ومعلومة وغير متجاهلة، ودون ذلك، فالإصلاح حاجة أميركية في المقام الأول، وحاجة الأنظمة إلى بقائها في الحكم في المقام الثاني.

الثانية: إحياء الممانعة السياسية للتدخل الأميركي في الشئون الداخلية، وتحجيمه على مستوى الفعاليات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وعدم السماح له بتحديد معالم المشروع السياسي المعارض، إضافة إلى عدم التعاطي مع مؤسساته غير الرسمية بشكل فردي، وخصوصا في ظل حماس الكثير من قطاعات الشباب لسلوك هذا التوجه، فهناك اعتباران موضوعيان لهذا الرفض.

الأول: إن الأميركان يعتبرون الخامات والقطاعات الشبابية كافة، كتلة مكثفة من المعلومات الاستخبارية التي يمكن من خلالها قياس حركة الواقع السياسي وتوجهاته، وتعاطي الأطراف الأميركية الرسمية أو غير الرسمية مع الفئات الشبابية، سواء داخل أوطانهم أو حينما يبتعثون إلى أميركا لإكمال دراساتهم الأكاديمية، إنما ليكونوا بعد ذلك نواة التحرك الأميركي داخل بلدانهم، حتى لو تم إعطاؤهم الحرية في الاختيار والحركة، إلا أن هذه الحرية جزء من التخطيط الاستخباري لقياس سلوك هؤلاء الشباب بشكل عفوي، وبالتالي إمكان التخطيط لرسم معالم المشروع السياسي الداخلي بناء على المعطيات التي يفرزها سلوك هولاء الشباب، ولا تجدي حال الممانعة حين بدء تنفيذ المشروع في شيء، وإلا فالتصفية السياسية والجسدية حاضرة في أي وقت.

الثاني: إن التعاطي مع المؤسسات الأميركية الرسمية وغير الرسمية لن يخلو من اشتراطات مستقبلية، ومن توريط مضاعف في ضرب الأجندة الوطنية والسياسية التي تصنع محليا، وخصوصا أن الأميركان لا يتعاملون مع النخب السياسية بصورة مباشرة دائما، وإنما يبحثون عن وسطاء من النخب أيضا، ويمارسون السياسة بوجوه متعددة، وهذا ما سيضعف جعل الخيار السياسي الشعبي متجها في خط مستقيم على مستوى التصاعد في المطالب، وكون الحراك الشعبي مرتبطا بهذه المؤسسات ونظرتها إلى الديمقراطية معناه الالتزام بخياراتها في ظل إمكاناتها غير المحدودة في شل الخيارات السياسية وضربها ببعضها بعضا، لهذا... فإذا كان هناك من دور لهذه المؤسسات، فينبغي أن يكون مفصولا كخيار سياسي عن الخيار الشعبي وإرادته في تسيير أموره، وينبغي أن تتضح معالم من هذا الفصل من خلال تحديد معالم المشروع السياسي الشعبي. ختاما: فإن الواقع في العراق، لن يخدم الوجود الأميركي في المنطقة، وستعاود الجدر على المستوى الشعبي تحديدا التآمها وممانعتها من جديد، وعلى الطرف الرسمي أن يكون جدارا عازلا يحفظ استقلالية الأوطان لينضم إلى الجدر الشعبية، أو يخرج من معادلة الصراع خالي الوفاض، فليس قدر المنطقة إلا أن تحيا بشعوبها وخياراتها، ولن يفلح أي طرف كان في حرف خيارات الشعوب

إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"

العدد 547 - الجمعة 05 مارس 2004م الموافق 13 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً