تماما كما هو صادق القول إن حساب يوم القيامة يتم على قاعدة «إنما الأعمال بالنيات»، فإنه بالسياسة «إنما الأعمال بالنتائج» صادق أيضا. جميعنا يتذكر كيف أن العالم كله أو كاد أن يجتمع في لحظة يقظة ضمير في دوربان في جنوب إفريقيا ليندد بعنصرية «إسرائيل» مفرزا وقتها معادلة سبق للأمم المتحدة أن تبنتها في إطار قرار ثم عادت فتراجعت عنه ألا وهو الصهيونية تساوي العنصرية. كان ذلك في نهاية صيف العام 2001م.
لكن سرعان ما جاءت الهدية المجانية المشبوهة والملغمة والملغّزة حتى الآن، ألا وهي واقعة نيويورك والهجوم الانتحاري الشهير في 11 سبتمبر/ أيلول الذي قلب المعادلة السابقة إلى معادلة ظالمة ومجحفة وتعسفية عنوانها: الإسلام يساوي الإرهاب!
ليس مهما هنا ما هي نوايانا وما هي نواياهم! المهم أن نتيجة ما حصل هو ما أشرنا إليه.
وحدهم الساذجون أو المغفلون أو الفاعلون الأساسيون في مشروع الفتنة «للشرق الأوسط الكبير»! هم الذين سيروّجون بأن منفذي مجزرتي كربلاء والكاظمية هم من العرب المسلمين السنة! والهدف من وراء ذلك واضح وهو تحقيق ما سبق أن قاله بعظمة لسانه السفير الأميركي السابق في «إسرائيل» مارتن انديك وعلى الهواء مباشرة في الأيام الأولى من الغزو الأميركي للعراق: «لم يبق أمامنا سوى تطبيق سياسة فرِّق تسد».
في علم السياسة والأمن والمخابرات و«حرب الأجهزة» (إخواننا اللبنانيون يتذكرون هنا جيدا أيام الحرب الأهلية المشؤومة) ليس مهما كثيرا الأداة المنفذة للجريمة إذ يمكن شراؤها وتوظيفها بأرخص الأثمان عندما تقرر القوة المهيمنة على الأرض إشعال فتيل فتنة عرقية أو طائفية أو دينية.
في العراق هناك اليوم فاعل رئيسي أوحد - على الأقل فيما يخص الملف الأمني - وهو الذي يضرب بقوة في الأرض ببساطة، وهو الذي يمسك بتلابيب الحدود وهو الآمر والناهي فيما يجوز وما لا يجوز! وبالتالي فإنه الأكثر قدرة على اللعب بالنار من غيره عندما يقرر إطلاق لعبة الفن الطائفية والعرقية وهو اليوم بأمسِّ الحاجة إليها بعد أن ثبت عجزه أمام وحدة العراقيين ووعيهم على رغم حجم المصيبة التي ألّمت بهم وحجم ميراث الظلم والعسف والفساد الذي خلّفه لهم نظام الطاغية.
بكل المعايير فإن المستفيد الأكبر من مثل هذه الجرائم المنظمة التي تحصل في العراق وآخرها جريمتي كربلاء والكاظمية، هم الأميركيون وشركاؤهم الإسرائيليون. والفائدة الكبرى والأهم ربما هي استبدال ثقافة المقاومة والعمليات الاستشهادية ضد المحتل الإسرائيلي والأميركي وهو ما تجوّزه وتقره كل الشرائع والأديان والأعراف الدولية بـ «ثقافة»! العمليات الانتحارية الإرهابية العبثية الإجرامية.
لكن السؤال الكبير الذي سيظل يلاحق المسلمين بكل طوائفهم ومذاهبهم ومدارسهم الفكرية والسياسية هو: أين مسئوليتنا نحن مما يحصل فينا وفي أحيان كثيرة باسمنا؟
لقد سبق لنا أن حذرنا مبكرا وتحديدا عشية مؤتمر لندن المشبوه الذي أريد منه وقتها إضفاء شيء من «الشرعية» والمقبولية على غزو العراق، نعم حذرنا وقتها من خطورة استدعاء مقولات «العسكرة» و«المخابرات» و«العرقيات» و«الطائفيات» و«الملكيات» وجيوش «التحرير»! وقيل لنا وقتها إنكم لا تفهمون العراق حق المعرفة! أو أنكم «مهووسون» بمقولات حزب الله اللبناني والمقاومة الفلسطينية.
واليوم وبعد مرور نحو عشرة أشهر على «التحرير»! وسقوط الطاغية الأرعن وميراثه من العسف والظلم والفساد نسأل أعلام الأمة ورموز الطوائف وعلماء الدين الأجلاء وقادة الأحزاب والحركات والهيئات بصراحة: ماذا تنتظرون لمواجهة الفتنة الكبرى التي لايزال العدو يعدّ لها من دون كلل أو ملل؟! هل ننتظر إلى حين تطور الأمور إلى قصف مدفعي متبادل بين الكرخ والرصافة أو بين الكاظمية والأعظمية لا سمح الله أو أن نسمع بالقتل على الهوية لنتحرك وربما تحت ضغط و«رعاية» الأميركي المحتل؟!
لماذا لا نسمع بتنديد قادة علماء الشيعة فور وقوع جريمة تدنيس المصاحف من قبل قوات الاحتلال وانتهاكهم لمساجد أهل السنة؟! لماذا لا نسمع بزيارات مكثفة يقوم بها كبار علماء السنة للنجف وكربلاء والأماكن المقدسة لدى الشيعة، وتشاورهم الدائم مع إخوتهم من علماء الطائفة، بل ومشاركتهم في مناسباتهم الدينية باعتبارها مناسبات مشتركة ووطنية وقومية؟!
لماذا لا نسمع قائدا شيعيا يرفع صوته عاليا بوجه الغزاة ويقول بصوت جهوري يصعد إلى السماء: نحن مع أهل الفلوجة الغيارى في دفاعهم المستميت عن الشرف والعرض والأرض والوطن والقيم الدينية الإنسانية؟!
لماذا لا تصدر التعليمات الواضحة من قادة الفريقين وفي اجتماع وطني حاشد: لقد انتهى عهد الطاغية وولّى إلى غير رجعة، العهد الذي لم يكن يمثل السنة ولا العرب وإنما كان يمثل أعداء الأمة المعادين لدينها وقومياتها ومِللها ونِحلها كافة؟
إن حجم التحدي كبير وخطير للغاية بنظري، وان المطلوب الخروج من الغرف المغلقة وأنماط الاجتماعات النخبوية والتحدث إلى بعضنا البعض وإلى الرأي العام بصراحة وشفافية وأن نكاشف جماهيرنا بالآتي:
أولا: ليس من العراق والعراقيين ولا من الملة والدين من يكّفر الشيعة أو ينكر عليهم حقهم في إحياء المراسم الدينية التي هي مراسم اعترفت بها الإنسانية في سياق تخليد العظماء والأبطال والقادة الأحرار.
ثانيا: إن العراق المستقبلي على رغم حاجته الماسة إلى التعددية والديمقراطية واللامركزية الإدارية والاعتراف بحق الأقوام الكردية والتركمانية وغيرها في نيل حقوقها كاملة غير منقوصة، لكنه ليس من مصلحة الوطن العراقي هذا وهو وطن الجميع إلا أن يبقى عربيا مسلما منتميا إلى حضارة العالم العربي والإسلامي، وان هذا فيه مصلحة الجميع بما فيها مصلحة المسيحيين العرب وغير العرب.
ثالثا: إنه ليس في ثقافتنا مقولة «أقليات» مذهبية أو عرقية أو دينية أو طائفية، لا في العراق ولا لدى جيران العراق، بل نحن أمة تثريها ثقافة التنوع الاقوامي والديني ومدارس الاجتهاد الفكري ولا تقلل من قيمة أحد أقسامها حجم نسبتها المئوية بالقياس مع الحجم العام للوطن العراقي أو الوطن الأكبر الممتد على امتداد الهلال الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا.
رابعا: إنه ليس من مصلحتنا مطلقا أن نستقوي بالعصبيات الأجنبية القادمة من وراء البحار لنيل حقوق هذه الفئة أو تلك من مكونات الوطن أو القُطر الواحد أو مكونات الوطن الأكبر.
خامسا: إن معارك التاريخ والخلافات السياسية أو الفكرية مهما عظُمت وجلَّت لا يجوز ولا يمكن إسقاطها على واقعنا الراهن، مع احترام الجميع لكل صاحب رأي أو تفسير أو قراءة لذلك التاريخ.
سادسا: وربما الأهم من كل ما تقدم أو درة التاج الذي يجب أن نتوج به رؤوسنا جميعا هو أن نعيد للبوصلة اتجاهها الصحيح قبل فوات الأوان، وهذه فرصة تاريخية قد لا تتكرر. وهنا تستدعيني الذاكرة التاريخية لسماع قول الأستاذ والفيلسوف الإيراني الكبير الشهيد مرتضى مطهري وهو يخاطب قومه في العاشر من محرم الحرام في العام 1390هـ لعل فيها درس بليغ يفيدنا لما نحن بصدده الآن، إذ يقول: «لو كان الحسين بن علي بيننا اليوم لقال إذا كنتم تريدون حقا إقامة العزاء من أجلي وأردتم الضرب على الصدور والخدود من أجلي فإن شعاركم لابد أن يكون فلسطينيا. إن شمر (قاتل الحسين) اليوم هو موشي ديان. وشمر ما قبل ألف وثلاثمئة عام قد مات. وما عليك إلا أن تتعرف على شمر هذا العصر. إن جدران مدننا يجب أن تهتز اليوم من شعارات فلسطين».
أليس هذا هو اتجاه البوصلة الحقيقي الذي يخرجنا اليوم من تحدي الفتنة الكبرى؟
إنه البديل الوحيد الناجع لخلاص العراق من ميراث ظلم صدام، والظلم الآخر الذي يمارس ضده الآن من الاحتلال
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 547 - الجمعة 05 مارس 2004م الموافق 13 محرم 1425هـ