في أقل من ثلاثة أشهر تحولت المنطقة العربية إلى حقل تجارب لمبادرات الإصلاح والتحديث صدرت عن جهات مختلفة تدعي محبتها للعرب وحرصها على وحدتهم وطموحها نحو تعليمهم حب بعضهم بعضا عن طريق تربية سلوكهم وتعويدهم على الديمقراطية وتبادل السلطة.
في أقل من ثلاثة أشهر صدرت مبادرة أميركية أطلقت عليها أميركا «الشرق الأوسط الكبير» وعلى رغم غموض هذه التسمية لم تطلع واشنطن الجهات المعنية على فحواها. ثم أطلقت ألمانيا مبادرة أوروبية لاصلاح منطقة «الشرق الأوسط» معلنة سلسلة ملاحظات على المشروع الأميركي ومبدية استعدادها للربط بين المبادرتين وتحويلهما إلى مشروع أميركي - أوروبي مشترك.
والآن وقبل أن يعرف خير من شر المبادرة الأميركية - الأوروبية الثنائية أعلنت كندا والنرويج إطلاق مبادرة جديدة عن «الشرق الأوسط» وستقوم قريبا بعثة دبلوماسية كندية - نرويجية مشتركة بزيارة سبع دول في «الشرق الأوسط» للتداول في احتمال وضع «وثيقة لاحترام الحقوق الفردية في دول المنطقة كافة».
وفي انتظار وصول البعثة الجديدة لابد من توقع صدور مبادرات جديدة تختبر مدى صحة أفكارها عن العرب ودول «الشرق الأوسط» الكبير أو الصغير أو المتوسط الحجم... وفي انتظار وصول البعثة لابد من وقفة عربية مشرفة تحد من هذه المهزلة الدولية التي لا هدف لها سوى السخرية من الدول العربية واهانة شعوبها. فيكفي ما تعرضت له المنطقة من اذلال وتشويه واهانات في الطول والعرض في العقود الأخيرة، ويكفيها ما قدمته من تضحيات لتجربة أحدث أنواع الأسلحة من طائرات وصواريخ وقنابل استخدمت أو أسقطت على المدن والمناطق العربية والمسلمة من أفغانستان إلى العراق ومن فلسطين ولبنان إلى الصومال والسودان. يكفي المنطقة العربية - المسلمة هذا الكم من التجارب من حروب الدمار والتخريب والفتنة. ويكفيها أيضا هذا الزحف من سلسلة مبادرات تريد تعليم العرب مكارم الأخلاق وأساليب العيش والتكيف مع الطبيعة والاجتماع.
إنها مهزلة حقا وهي في مجموعها لا تهدف إلا للسخرية من شعوب المنطقة وحضارتها وثقافتها. إنها مجرد أساليب جديدة للاذلال والتطويع تبدأ باسم الاصلاح والتربية وتنتهي إلى كوارث جديدة يتوقع أن تصاب بها المنطقة العربية. فبعد أن أصيبت المنطقة بسبب الحروب (منها وعليها) بعاهات جسدية فإنه يتوقع إصابتها بالكثير من العاهات النفسية والمعنوية والتربوية في حال اختبرت فيها هذه السلسلة من المبادرات الفوقية والشوفينية والاستعلائية.
إنها عنصرية جديدة ومقلوبة. فرأسها يدعي الاصلاح وقاعدتها تهدف إلى تشويه المنطقة نفسيا عن طريق اذلالها وسحب روحها وتركها اشلاء محطمة من دون كرامة وارادة.
مثل هذه المبادرات المسقطة على المنطقة من دون استشارتها في الموضوع هي اقرب إلى اللعب و«الضحك على الذقون» وتهدف في معظمها إلى نوع من الدعايات الانتخابية - السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا، وهي مجرد أوراق للقول إن العدوان على الدول العربية يهدف إلى تطويرها لا تطويعها.
إنها معركة ضد الكرامة. والدول المبادرة إلى طرح المشروعات الاصلاحية تعرف أن التحديث والتطوير واحترام حقوق الفرد لا يتأتى عن طريق أوراق كتبها بعض الخبراء في الشئون الدستورية والاقتصادية. فالاصلاح مسألة تاريخية تبدأ أولا بتصحيح مواقف الدول الأوروبية - الأميركية الاخلاقية من موضوع القانون الدولي واحترام حقوق الشعب الفلسطيني ورفع دعمها للعدوان الإسرائيلي المتواصل. والدول المعنية تعرف نفسها من دون ذكرها. فهي مسئولة عن ثلاثة أرباع كوارث العرب وهي لعبت أدوارا في منع التقدم والتواصل والتعاون بين الدول العربية.
فكل إصلاح يحتاج إلى صدق ونقد ذاتي وسلسلة اعترافات بالمسئولية المشتركة عن النكبات التي أصابت العرب ودول العرب من المحيط الى الخليج. فالمسئولية دولية وعامة قبل أن تكون داخلية ومحلية. وإذا كانت الدول العربية تتحمل الكثير من المسئولية التاريخية والسياسية والمعنوية فهناك الكثير من الدول الكبرى تتحمل بدورها مسئوليات في هذا الصدد من تشجيع ومباركة ومساعدة الأنظمة على فعل أفعالها.
المطلوب هو الصدق واحترام أخلاق القانون ويكفي العرب ما أصابهم من حروب واعتداءات ويكفيهم ايضا مبادرات من كل حدب وصوب. فالمنطقة ليست حقلا للتجارب تأتي مرة من مصانع الأسلحة ومرة من مصانع (معاهد) الأفكار
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 547 - الجمعة 05 مارس 2004م الموافق 13 محرم 1425هـ