عندما أصدر الكاتب والشاعر عبدالرحمن الشرقاوي كتابه الذي صدر في جزأين «علي إمام المتقين» في أواخر السبعينات تساءلت: على ماذا سيركز في هذا الكتاب؟ على أي جانب من جوانب فكره ذلك الذي كشف عن بطولته وشجاعته وهو لايزال صبيا في الحادية عشرة من عمره ونام مكان ابن عمه رسول الله (ص) وهو يدرك جيدا أن قريشا مجمعة على قتله تلك الليلة عندما أراد أن يوهم الأعداء بأن الرسول موجود في منزله ما يذكرك بما قاله إسماعيل لأبيه إبراهيم «يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين» (الصافات: 102). هؤلاء المناضلون والثوار قد تساموا فوق الخوف في سبيل قناعاتهم وثوابتهم، وقد ولدوا كبارا واختزلوا مراحل الطفولة.
وما أن قرأت كلمات إهدائه لشقيقه عبدالغفار الشرقاوي وبلغت الكلمات التي يقول فيها: «إنها صفحات عن إنسان عظيم، تعودنا أن نحبه منذ الصغر، وحفظنا عنه كلماته الجليلة، ومازالت قلوبنا تخفق بحبه لا لأن آباءنا علمونا أننا من ذرية الحسين فحسب، ولكن لأننا حين تعرفنا عليه أكبرنا فيه تلك الفضائل الرائعة التي تجعل الإنسان قادرا على أن يدافع عن الحق والحرية والعدل، مهما تكن المعاناة ومهما تكن صولة الباطل» حتى علمت أنه يؤكد قيم النضال للدفاع عن المستضعفين.
ولا أعتقد أن الشرقاوي قال هذه الكلمات وهو الأديب والشاعر والسياسي الذي لا يكتب من فراغ بل من خلال قراءة موضوعية ومتعمقة للإمام علي، هذا الإنسان الطاهر الذي لم ينزلق مثل غيره من شباب قريش إلى مهاوي عبادة أدركها منذ طفولته انها مجرد تماثيل صنعت بأيدي أولئك الذين خلت عقولهم من معرفة المنطق ورجاحة العقل، تلك العقول الخالية من القدرة على التأمل. من هنا نجد الشرقاوي اختزل كل فضائل الإمام الرائعة في أنها هي التي أوصلت الإنسان في النهاية ليكون قادرا ومتحمسا ليدافع عن الحق والحرية والعدل هذه المفاهيم والقيم الأخلاقية والسلوكية العليا التي نادى بها الإمام قبل أكثر من 14 قرنا؛ لتأتي أوروبا والولايات المتحدة وتعلنان اليوم اكتشافهما أهمية وجود جمعيات لحقوق الإنسان وترفعان شعار الحرية والعدل، هذا الاكتشاف الذي جاء متأخرا جدا.
كما يكشف الشرقاوي في كتابه «علي إمام المتقين» أن الإمام عليّا الذي تربى في أحضان الرسول (ص) منذ طفولته وعلى تعاليمه، وواجه بكل الفضائل التي تعلمها من النبي (ع) عصرا شرسا تنهار فيه قيم لتسود فيه قيم جديدة!! ويضيف المؤلف «هو عصر تضمحل فيه الإمامة بجلالة تقواها، لتنشأ فيه الملكية بأطماعها وقبضتها وطغواها حيث انتهت الخلافة الراشدة، وبدأ الملك العضوض»!
وعندما يرى المتتبع هذا الكاتب المنحدر من سلالة سيدالشهداء الحسين بن علي رضي الله عنهما وحبه لآل البيت لا يترك أي مجال للشك حين شهد بتلك العلاقة المتينة التي تربط بينه وبين بقية الصحابة من الخلفاء الراشدين ومدى توادهم وتراحمهم وترابطهم حين يكشف أن ما حدث في سقيفة بني ساعدة ما كان سحابة صيف انجلت بعد حين، ولو أن عليا رضوان الله وصلاته عليه يرى في ذلك أية غضاضة أو أي خروج على الشرع لما توانى عن الوقوف في وجه أصحابه فهو البطل الذي لا يهاب وهو الصحابي الذي لا يخاف في الله لومة لائم وهو الذي تربى على قول الحق، ولو كانت أية بقايا جفوة بقيت بينهم لما كان يكرر الخليفة عمر «علي أقضانا»، وحين أصبح عمر أميرا للمؤمنين كان يستعيذ من معضلة ليس لها أبوالحسن. ولقد استشاره أبوبكر من قبل، وعثمان من بعد، رضي الله عنهم كما يقول المؤلف عبدالرحمن الشرقاوي وهو بكل ثقافته وتقواه وولائه العميق لآل البيت يعترف بهذه العلاقة الوثيقة بين الصحابة. وبعد أن انجلت سحابة الخلاف وعادت المياه إلى مجاريها لم يعد هناك مجال لإبقاء جذوة الخلاف بين المسلمين مشتعلة يزداد أوارها والإسلام يمر اليوم بأخطر وأضعف حلقاته فالإمام علي (ع) لا حاجة له بالدفاع عنه لأنه كان قادرا على مواجهة أصحابه لو وجد أن ما قاموا به خروج على أصول الدين والحق.
لهذا آن الأوان لأن يقوم أولو البصيرة والوعي والغيورون على هذا الدين من كبار العلماء ويفتوا - وخصوصا من مرجعيات الشيعة - بكل شجاعة بأن سقيفة بني ساعدة كادت تدخل فيها لعبة سياسية وحدث ما حدث وبايع عمر أبابكر خشية ان تسقط الخلافة في أيد لا قرابة لها مع الرسول (ص)، ولم تكن الخلافة كأيام بني أمية من جاه ومال ووجاهة بل كانت عبئا كبيرا على من يقبل بل وحملا ثقيلا حتى أن الإمام عليّا رفض في البداية حين عُرضت عليه بعد عثمان لأن الخلافة في نظره كانت مسئولية كبرى فأية متعة لحاكم لا يملك ثوبا يبلغ طوله من بيت المال.
وإذا كانت المراحل السابقة من الإسلام لم يكن مثل هذا الخلاف يسبب خطرا سوى بشاعة الموقف أن يختلف المسلمون فيما بينهم، أما اليوم فقد اختلف الوضع واختلف الموقف واختلف نوع العدو إذ من الواضح أن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بقيادة الصهيونية العالمية لا تستهدف طائفة من المسلمين، وإن كانوا يتظاهرون بذلك في العراق لخلق الوقيعة بين الطائفتين وتمرير ما يريدون لإضعاف أمة الإسلام بكل لغاتها، بكل هوياتها وقومياتها، بكل تاريخها وتراثها لا من أجل أوروبا وأميركا فمصالح هذه الدول من سوق ونفط لا أحد يختلف في توفيرهما لها بل نحن الذين نجري خلفهم لكن المسألة تكمن في فرض «إسرائيل» ومحو أرض إسلامية مقدسة هي فلسطين بما بها من المسجد الأقصى والمقدسات الأخرى ولتبقى «إسرائيل» قوية مزروعة في خاصرة هذه الأمة كعصاة لتأديب الشرق الأوسط. أعتقد أن سقيفة بني ساعدة لا يجب أن تبقى هي العقدة التي تجعل المستفيدين من توسيع شق الخلاف إلى درجة أن تتآمر دول ضد أخرى لمجرد الخلاف المذهبي.
وقد دفعت دول الخليج فاتورة غلطتها التاريخية في دعمها للمستبد العراقي صدام حسين ضد إيران وكان الثمن باهظا أكثر مما نتصور، ولا يجب السقوط في وحل مماثل اليوم في العراق ظنا بأن قيام شريط شيعي يربط إيران بالعراق سيكون في صالح الأمة الإسلامية بل هو الفصل الثاني من تراجيديا التآمر ضد المسلمين إذ لا يجب أن تفرح أية طائفة بهذا التمني فمثلما وقعت دول الخليج السنية في فخ الأميركان سيكون هذا الشريط فخا آخر من نوع مختلف لدق آخر اسفين وأطوله في جسد هذه الأمة.
وقد آن لعقلاء الأمة أن يرفضوا أصوات الراديكاليين من كل طرف، صحيح قد يكون في ذلك مصلحة لبعض الأنظمة الخليجية أن تلعب على وتر الطائفية لتخلق توازنا لحفظ مصالحها ولكن الخسارة تكون أكبر على المدى الطويل.
وما كشفه مستشار وزير الثقافة الإيراني محمد سعيد النعماني في محاضرته بمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في محاضرته القيمة قبل بضعة أيام تحت عنوان «الاجتهاد في ظل عالم متغير» من ضرورة الاجتهاد بسبب الحياة الجديدة وبتطورها وتقدمها ما يفرض تحديات مختلفة تستدعي الاجتهاد ليتم حسم القضايا العالقة قبل فوات الأوان.
وردا على مدى ضرورة أن تقوم المرجعيات الشيعية بإنهاء الخلاف المزمن بين الطائفتين وأن من مصلحة أمة محمد بكل فصائلها وطوائفها أن تتجمع في كتلة قوية واحدة لمواجهة المد الذي يكاد يكون صليبيا وفرض حضارة الغرب علينا لا من خلال الحوار، بل من خلال صراع غير متكافئ.
ولكن المأساة تكمن في أن بعض العلماء من مصلحتهم استمرار هذا الخلاف الذي بلغ درجة العداء والصراع حتى في البلدان الصغيرة ما ينذر بالخطر، والمشكلة الأخطر من هذا وذاك هي أن المرجعيات لم تعد قادرة على ضبط الشارع الشيعي من البسطاء ولم يعد في إمكانهم قلب تلك التقاليد والموروثات التي ترسخت منذ عقود عدة بسبب سماعهم المستمر لخطب القراء بالأسلوب التراجيدي نفسه، وبالصوت الحزائني المؤلم نفسه، وقد أصبح من الصعب التراجع عنه وعن الممارسات المصاحبة.
والاعتداء الأخير على مكاتب المرجع الديني محمد حسين فضل الله صورة واضحة اذ جاء بعد فتواه الفقهية الأخيرة بشأن ضرب الرؤوس بالسيف والظهور بالسلاسل وأمثاله لما تعطيه من صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين من حيث دلالتها على التخلف في التعبير عن الحزن تحت عنوان المواساة ما يؤدي إلى هتك حرمة الخط الإسلامي الصحيح، وان هذا الأمر ليس من الشعائر الإسلامية إلا تأكيد بأنه بات من الصعب التراجع عما بلغه البسطاء من جهة ورغبة البعض لإبقاء جذوة هذه الممارسات مستمرة ما يعني أن الموضوع خرج من يد كبار المراجع الدينية. ويعتقد جليل العريض أن عادة ضرب الرأس بالسيف والظهر بالسلاسل لم تكن متبعة في البحرين قبل عدة عقود، وقد جاءت مع الجيش البريطاني الذي كان يضم مسلمين هنودا من الشيعة وذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية فقد سكنوا بيت فاروق الكبير في المنامة وشاركوا شيعة البحرين في الحسينيات وبدأوا يستخدمون سلاسل مع السكاكين إضافة إلى ضرب السيف، ومع الأيام بدأت هذه الممارسات تتسع وتزداد عددا بين البحرينيين.
أما قبل ذلك فإن الحسينيات كانت تعتمد على القراءة وضرب الصدر بشكل بسيط لا يصل حد جرح الإنسان صدره كلٌّ في حسينيته ثم تطور الأمر بحيث كان أهل هذه الحسينية يزورون الحسينية الأخرى ليجتمعوا ويلتقوا دون أن يمارسوا العنف الحالي، وبعد مزيد من التطور بدأ يتم استخدام السلاسل ولكن ليس بهذا المستوى من القسوة.
المهم يرى جليل إبراهيم العريض أن عمر هذه الممارسات والخروج في الشوارع لا يزيد على 60 عاما فقط وهذا يفسر ما يقوم به الباكستانيون بعد أن انفصلت عن الهند في بلادهم من عنف غير عادي في استخدام السيف والسلاسل المنتهية بالسكاكين، إن المسألة لا تعني حسب ظني سوى صورة مشوهة للإسلام حسب فتوى المرجع محمد حسين فضل الله الذي تمت مهاجمة مكاتبه بسبب هذه الفتوى، قد استنكر الكثير من القيادات والوجهاء والسياسيين هذه الاعتداءات على مكاتبه.
لهذا نجد أن كثيرا من المراجع الشيعية الراغبة في فتاوى مماثلة لا تملك الشجاعة لإدراكها انه ما عاد بالإمكان فرض ذلك؛ لأن العوام والبسطاء وأصحاب المصالح يرفضون قبول أية فتوى تمنع هذه الممارسات فقد أصبحت جزءا مهما من عقيدتهم فالمسألة خرجت من يد العلماء والمجتهدين والبسطاء الى درجة أنه لا يمكن إقناعهم ما يزيد شق الخلاف بين الطائفتين بشكل مستمر، وينظر البسطاء إلى الطائفة السنية نظرة فيها شيء من العداء لتشبثهم بالأفكار التي برزت من خلال تسييس عملية الخلاف في قضية سقيفة بني ساعدة فهل ستبرز عناصر من مجتهدي الطائفتين لوضع استراتيجية مدروسة لكيفية إنهاء الخلاف ولو على مراحل؟ سؤال يفرض نفسه في ظل هذا العالم المتغير، حمى الله هذه الأمة من خلاف الداخل ومن مؤامرات الخارج التي تقودها الصهيونية في الخفاء من قبل الراديكاليين منهم.
إن تعذيب الجسد هو الجانب المؤلم في المشهد العاشوري أما غير ذلك فأتمنى لو يتسع وينضم أبناء السنة معهم ليحس الجميع بشعور الوحدة وخصوصا أن هذه الممارسات العاشورية تعطي جيل الشباب إحساسا بالقوة والبطولة. اننا بحاجة إلى عناصر شابة قوية لمعركة الأمة المقبلة إن لم يتم حسم القضية بشكل عادل بعد أن حولت الأنظمة العربية بلدانها إلى سوق للأوروبيين وبقرة حلوب يدر ضرعها نفطا وقواعد للاعتداء على الآخرين وفرض قبول الواقع بالتصالح مع «إسرائيل» التي تمارس كل عذابات الدنيا وإهاناتها ضد أشقائنا في الأراضي المحتلة. إن مشاركة شباب السنة مع إخوتهم من الطائفة الشيعية ليس بدعة غير صحيحة فهي تقرب بين الطرفين، والحسين ليس رمزا لطائفة واحدة فهو رمز للأمة الإسلامية كلها ورمز لكل الشعوب المستضعفة التي تبحث عن الحق والحرية والنضال من أجل القضاء على المفسدين في الأرض والطغاة الذين يزعجهم الاعتراف بحقوق الآخرين.
إن من الصعب مطالبة أي مرجع بالفتوى ضد هذه الممارسات التي تجذرت وتعمقت في البسطاء بعد أن أصبحت مزيجا من الهواية والعقيدة والتحدي وسباق القدرة ولهذا يصعب على أي مرجع حتى لو كان في مستوى محمد حسين فضل الله أن يجد له أذنا صاغية، ولكن منطق العقل يقول يجب إقناع جيل الشباب والبسطاء بأن إيذاء الجسد مرفوض دينيا وهذه الطقوس تكونت لدى المسلمين الهنود الذين استمروا في ذلك وتوسعوا فيه بعد قيام جمهورية خاصة بهم هي جمهورية باكستان.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الزمن الرديء وهذا العالم المتغير وهذه المؤامرة المستهدف فيها الإسلام نفسه: هل الإمام علي مربي الثائر الأكبر في الإسلام الحسين بن علي يرضى بهذا الخلاف لو كان حيا بيننا؟
العدد 546 - الخميس 04 مارس 2004م الموافق 12 محرم 1425هـ