عندما نستعرض أحوال الدول العربية نرى أنها تتّصف بصفة الاستيراد السيئ منذ عقود مضت، وكفّة ميزان وارداتها راجحة على كفّة صادراتها في مختلف المجالات، وناتج التصدير والاستيراد العربي واحد بحسب معادلة تقول: إن ناتج ضرب الصفر المصدَّر بأي عدد من الأعداد يساوي صفرا، وناتج ضرب الفاشية المستوردة بأية حرية أو تحرُّر أو ديموقراطية يساوي صفرا أيضا. والصفر في جميع الحالات تجسيد جامع مانع للديكتاتورية التي تضرِب ألوان الحياة كافة فتحوّلها إلى أصفار، وتكرّس لونها السوداوي الوحيد الذي يلغي وهجَ ألوان الطيف في ليل الظلم الرهيب .
والباحثون في فلسفة تاريخ العلوم يؤكدون فضل العرب في تصدير الأرقام، واكتشاف الصفر الذي غيّر الأعاجمُ اسْمَه العربي الرنان من صفر (Cipher) إلى اسم أعجمي هو زيرو (گero) وما جاء ذلك التغيير إلا لطمس هوية الصفر العربية التي تتصدر قائمة الصادرات العربية.
ويعترض المأخوذون بنشوة الماضي على دُعاة اليقظة والصحوة، ويؤكِّدون أنّ العرب حملوا راية الدعوة الإسلامية إلى البشرية في أقطار الأرض، فأنقذوها من الظلم وأرسوا قواعد العدالة، ويعززون آراءهم بدعوى تقول: «إن الإسلام هو الدين الأكثر انتشارا في العالم»، وهذه الدعوى كانت صحيحة في أيام الخلافة الإسلامية التي اضعفت حياكة المؤامرات، وشنِّ الحروب الداخلية والخارجية عليها منذ القرن الهجري الأول وحتى الآن.
ولكن مقولة «الإسلام هو الأكثر انتشارا» تتهاوى في الزمن الحاضر لأن الرِّدَّة صارت مُتاحة في ظل العولمة، ومعظم الدول الإسلامية المعاصرة علمانية الدساتير نظريا، وتنخرط في محاربة ما يُطلق عليه «الإرهاب الإسلامي» بحسب مصطلحات النظام العالمي الجديد. فإذا كانت الحال هكذا فإن الصادرات العربية تتراجع وتقتصر على الصفر الذي صَحَّف المستوردون اسمه وحرفوه، وأضافوا له قيمة رياضية (بموجب الرياضيات الحديثة) لم يعرفها العرب من قبل، وصارت الأمّةُ عالة على باقي الأمم حتى في وضع المناهج المدرسية، وتأهيل الأئمة والخطباء والمؤذنين لمواكبة مسيرة الحداثة العالمية.
العرب أمّة مستورِدة، تستورد المأكل والملبس والمطعم والمشرب، وتصدِّر المواد الخام التي تستخرجها، وتشرف على تصديرها شركات أجنبية، ويأخذ العرب أصحاب الأرض نصيبا من ريعها يتراوح بين الخُمْسِ ورُبع العُشر، وهذه قِسمة شرعية معكوسة الترتيب قياسا على حقِّ المالك الأساسي وحقِّ المستفيد.
ولعل أخطر ما يستورده العرب نُظُم الحكم والإدارة، والفلسفة والفكر السياسي، وذلك لأنهم يستوردون من الأمم البضائع التي لم تَعُدْ صالحة للاستعمال في بلدان المنشأ أو تجاوزتها مسيرة الزمن، واستيراد البضائع المستعمَلة والمنَسَّقَة يُنتِج حالا مَرَضِيّة غير صحية بادية للعيان في بلاد العرب .
استورد العرب الفاشية (Fascism) وزاوجوا بينها وبين الفردية (Individualism) بطريقة عربية محليّة، فأنتجوا أنظمة تجمع مساوئ التصدير والاستيراد بامتياز، وانعكست نتائج المزج بين الفردية والفاشيّة على الساحات العربية التي أفرزت أنظمة عسكرية شمولية تدّعي الحداثة والتجديد.
يرى الباحثون في ماهية الفردية أنّ مفهوم الفردية مفهوم عائم يتأرجح بين ما هو نظري، وما هو عملي، وما هو سياسي، وما هو اجتماعي، وما هو أخلاقي، ويراوح عموما بين التصنيفين الآتيين:
الأول: يجعل الفرد النابِهَ أساسا للحقائق الوجودية، ويربط الظواهر الإنسانية كافة بالأفراد النابغين ويجسِّدون نظرية أرستقراطية النُّخبة والسوبرمان (التي امتدحها عدوُّ الديموقراطية الفيلسوف فريدريك نيتشه في كتابه المشهور «هكذا تكلم زرادشت» وترجمه إلى العربية فليكس فارس) واستندت إلى تلك النظرية الأحزابُ والمنظّمات النازية والفاشية.
ونظرية «السوبرمان» تدعو إلى تقديس الزعيم الذي يمثِّل الإنسان الأعلى أو الراقي أو البطل المقدَّم على الجماعة التي تشبهه وما هي بِهُوَ، بل هو هي، أي: هو الجماعة التي يقمعها، وهو المحرِّك الذي لا يُحرَّك، والمفكِّر الذي لا يُفكِّر مثله أحد، وهو رأس السلطة المسيطر، والحاكم المطلق الذي يَسمح لنفسه وما تستسيغه مواهبه بفرض سياسته على الآخرين تنفيذا لما لديه من إلهام خاصّ يقود إلى الديكتاتورية الوحشية المطلقة أي: التوتاليتارية (Totalitrian) ويستعين لتحقيق مآربه بوسائل الروح الباطنية لقيادة القطيع القبلي، أو السياسي أو العرقي، أو المذهبي إلى حيث يريد بإرادة جمعيّة عمياء تقود القطيع خلف الراعي، أو خلف من ينوب عنه. ويفرض الزعيم على الآخرين التغني بصفاته ولو كانت مُنحطّة، ومنجزاته ولو كانت ضحلة، ويُعمّم ذلك التغني على مسارح الوطن وساحاته باستغلال وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية ما ظهر منها وما بطن من دون قيد أو شرط وِفقَ القوانين الجائرة.
الثاني: يجعل غاية المجتمع رعاية مصالح الأفراد عموما بموجب عقد اجتماعي يقوم على الإرادة العامة المشتركة، وعلى العدالة والمساواة، ويقتضي إعطاءَ الأفراد حريّة تدبير شئونهم وِفْقَ ما يشتهون في إطار الأنانية المعتدلة المنضبطة بمسئولية تامّة، من دون عدوان على الآخرين، ومن دون قمع من سلطة الدولة.
ويجعل هذا المفهومُ الفردَ غاية في ذاته بجسده وروحه، وجوهره العينيّ العاقل، ويجعل المجتمعَ وسيلة لخدمة الغاية الفردية التي تسهم في تطور المجتمع بدوافع الذاتية الفردية الخيِّرة في ضوء الثقة بالنفس بعيدا عن الحقد والانطوائية. وهذا الاتجاه يقود إلى الحكم بموجب الديمقراطية الليبرالية التي تتيح حرية العمل والتنافُس من دون فوضى، وتحفظ للأفراد حقوق الملكيّة والتعبير والاختيار لتحقيق الرفاهية والسعادة المطلقة القائمة على تبادُل المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة.
هذا هو الإطار العام للفردية بنوعيها السلبي والإيجابي، وما يُعبَّر عنه بالضارّ والنافع، أي: الخير والشرّ، فالخير هو النافع العامّ الذي يشكل لبنة من لبنات البنيان الاجتماعي، والضّارّ هو المتسلط الأناني، وهو نموذج من نماذج الفاشية التي صدرتها أوروبا إلى بلدان العالم الثالث من عرب وعجم بعدما نفد مفعولها، ورفضَها الأوروبيون، واستغنوا عنها بالأنظمة الديمقراطية إلى حدٍّ ما.
واشتُقَّ مصطلح الفاشية من كلمة إيطالية هي(Fascio) وتعني الاتحاد أو الجمع المتماسك المستبدّ بغيره من الجماعات التي ينظر إليها نظرة دونية، والفاشية تحتقر مبدأ المساواة بين الناس، وتقدّس السُّلطة المستبدّة، وتمجِّد زعيمها، الملهم المُخلِّص للأمة من أعدائها المعارضين لتوجهاتها داخليا وخارجيا، وتعتبر الزعيم الوطن والوطن الزعيم.
وتبالغ الفاشية في تقديس الزعيم إذ تعتبر كلّ ما ينطق به في خطاباته قوانين مُلزمة للجميع، وأقواله خالدة غير قابلة للتعديل أو الإلغاء من قِبل الأفراد أو المجتمع لأنه كُلِّيّ العِلم، وكليّ القُدرة، وصفة الخيانة ستلصق سلفا بمن يحاول الاعتراض على مقولات الزعيم الخالد الذي لا يخطئ.
وتُعطي الفاشية قيمة للنُّخبة تتناسب مع صفة الملتزمين المقرّبين من الزعيم، فأنوارهم مستمَدَّة من نوره الأزلي الأبدي المطلق، وهُم كالأقمار بالنسبة إلى الشمس مصدر النور، وعلى الجمهور السلبي الظلامي أن يرضخ للنُّخبة وزعيمها الأوحد الذي يقود النُّخبة العسكرية والسياسية والحزبية التي تؤمن بالتضحية وتبرِّرها من أجل الزعيم الذي يستحقّ الطاعة من دون سواه، والتواصل معه يُغني عن التواصل بغيره ماديا ومعنويا، والزعيم يصنع مجد الوطن، والوطن لا يعوِّض فقدان الزعيم.
ظهرت الفاشية في إيطاليا سنة 1922، ثم ظهرت في ألمانيا تحت شعار النازية (القومية الاجتماعية) سنة 1933، وقامت الفاشية على الجمع بين أفكار مذهبين فلسفيين هما: اللاعقلي واللاإرادي، واعتبر موسوليني الفاشيّةَ إيمانا حين قال: «لو لم تكن الفاشية إيمانا لما كان بمقدورها أن تمنح الشجاعة والصلابة لمعتنقيها، لا يمكن تحقيق شيء عظيم إلا في حال انفعالية من الحبّ الصوفي الديني».
وتذهب الفاشيّة إلى وجوب ذوبان الأفراد بشكل كلي في الدولة التي يحكمها الزعيم الأوحد، وطوّر النازيون الألمان الفاشية الايطالية باعتماد مفهوم «السوبرمان»، والدعوة إلى الثورة على القِيَم الأخلاقية والدينيّة السائدة الموروثة، ووصفوا نيتشة بصفة معلم القومية الاشتراكية الديماغوجية الشكلية، واعتمدوا فلسفته بشكل رسمي في ألمانيا النازية، واعتبروا العقل الخائن عدوّ الحياة والنفس الإنسانية، وربطوا جريان الحياة من الحاضر إلى الماضي وليس إلى المستقبل بغية تمجيد جريان دماء الأباء والأجداد في عروق الأبناء.
مجّد الفاشيون والنازيون العرق الآري المتفوق الذي يتغلب على العروق الأخرى باعتباره أصلح منها بحسب زعمهم، وهو معدن الحضارة والتقدم، وحرّموا التمازج بين العروق حفاظا على ميزات العرق المتفوق من الانحطاط جراء تمازج الأعلى مع الأدنى لأن المياه تنحدر نحو المستنقعات الدُّنيا، وعبّر عن ذلك الهوس هتلر بقوله: «إن مهمتنا أن ننظم العالم كلّه بحيث يُنتج كلُّ بلد أفضل ما يستطيع إنتاجه بينما يتولى الجنس الأبيض الشماليّ تنظيم هذه الخطّة». ولتحقيق ذلك قام الفاشيون والنازيون بالعدوان على شعوبهم ابتداء بتسليط النُّخبة، ثمّ العدوان على الشعوب الأخرى بالعدوان العسكري والاحتلال المباشر وغير المباشر. وتبقى البلدان العربية من أكثر البلدان استيرادا للبضائع السياسية الفاسدة التي أكل الدهر عليها وشرب، ولا تُصدِّر إلاّ المواد الخام التي يشرف على استخراجها وتسويقها الغرباء، ويسود الكسل والبطالة في البلدان التي قصرت نشاطها على التغني بمواهب الزعيم الوحيد، والتغني بأمجاد الماضي العريق أيام اكتشاف الصفر، وتصديره إلى الأمم الأعجمية.
ولكن قيمة الصفر تناظر خطّ الزوال الوهميّ في غرينتش في انجلترا بين الخطّ 180 والخطّ 180 من خطوط الطول، وهو الحدّ الفاصل بين الأعداد الموجبة الزائدة عن الصفر، والأعداد السالبة الناقصة عنه، وقد أثبتت الرياضيات أن قسمة عدد ليس صفرا على صفر هي عملية غير منطقية (وليس لها معنى)، وصفر مقسوما على صفر = كمية لها معنى، وتعدّ غير معينة بقيمة محددة، ويمكن تعيينها باستخدام النهايات، ولكن ضرب الصفر بغيره من الأعداد هو ضرب مدمر لأن الناتج عنه هو الصفر، وهذا الضرب يشبه التغني بمآثر تصدير الصفر من حيث التدمير. والتشابه بين أرباح اللاعبين بالأصفار الاستبدادية والأنظمة العربية الاستبدادية كبير جدا، ومتطابق مع نتائج الضرب بالأصفار لأن شعبية تلك الأنظمة هي الأصفار بحد ذاتها، على رغم إعلانها النجاح في الاستفتاءات بنسبة 99 في المئة، وهذا هو سبب انعدام الفاعلية العربية على المستويات الفكرية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والأدبية والاجتماعية والفنية والإعلامية والدينية كافة
العدد 546 - الخميس 04 مارس 2004م الموافق 12 محرم 1425هـ