«الطابور الخامس» و«الطرف الثالث» وغيرها من اسماء اشتهرت في لبنان في سبعينات القرن الماضي. ففي تلك الفترة وقعت سلسلة حوادث طائفية ومذهبية فردية ومعزولة لاقت الرفض والاستنكار من المجتمع. وكان زعماء السياسة في لبنان يتفقون على ربط تلك الحوادث بطرف يعمل لجهة مجهولة ويريد الشر بالبلاد واستدراج الناس إلى فتنة أهلية. واستمر الضغط على لبنان على رغم الاستنكار والاحتجاج وكان العاملون في حقل السياسة يستغربون حصول تلك الأعمال المشينة من اعتداءات على مساجد وكنائس ودور عبادة. فمثل هذه الأعمال لا يقوم بها الا من لا يهمه مصلحة البلد ويريد اثارة فتنة.
آنذاك كانت الولايات المتحدة تستعد للانسحاب العسكري من فيتنام وجنوب شرق آسيا. وبدأت واشنطن تعيد النظر في سياسة التدخل المباشر التي فشلت ولاقت الاستنكار العالمي. وكانت الادارة تخطط لاستراتيجية جديدة وهي تعزيز دور القوى الاقليمية وتقويتها لتلعب دور «الوكيل» أو «البديل» المحلي لتمرير السياسات الكبرى للولايات المتحدة.
آنذاك كان هنري كيسنجر هو مهندس السياسة الجديدة وبرز دوره بعد حرب اكتوبر/ تشرين الأول 1973 كاستاذ في استراتيجية المراحل (خطوة خطوة). زار كيسنجر المنطقة كثيرا وعرج على لبنان المزدهر والنشط في السياسة والاقتصاد. وبعدها خرج بمقولته الشهيرة «لبنان خطأ جغرافي». ومنذ تلك اللحظة ازدادت ضربات «الطرف الثالث» و«الطابور الخامس». وتحمل لبنان الكثير قبل ان ينفجر في ابريل/ نيسان 1975.
وحين وقعت الواقعة اختفى «الطرف الثالث» و«الطابور الخامس» ودخلت الطوائف والمذاهب في لبنان تنهب بعضها بعضا فاستبيحت الاحياء المدنية والمخيمات الفلسطينية والكنائس والمساجد والقرى والمدن وسقط عشرات آلاف القتلى ومئات الآلاف من الجرحى ونزح قرابة المليون في داخل البلد أو خارجه.
واكتشف اللبنانيون بعد 20 سنة من الاقتتال والتقاتل ان الحروب الأهلية لا نهاية لها. فهي بدأت ضد الفلسطيني وانتقلت بين المسلم والمسيحي، وثم بين المسيحي والمسيحي وبين المسلم والمسلم، وانتهت إلى صراعات دموية داخل الطائفة نفسها. فاسهل شيء هو اشعال فتيل الحرب اما الشيء الصعب فهو تدارك تداعياتها ومحاصرتها والسيطرة على امتداداتها من الخارج ومن الداخل.
آنذاك كانت الاسماء المتداولة عن الطرف الخفي والمستفيد لا تتجاوز حفنة من الكلمات «طرف ثالث» أو «طابور خامس». فآنذاك لم تكن الالوان موجودة مثل «الزرقاوي» و«الحمراوي» و«الخضراوي» و«الصفراوي» و«البيضاوي» و«السوداوي». فهذه الاسماء جديدة استحدثت بعد توقف الحروب في لبنان وهزيمة الاحتلال الإسرائيلي.
هذه الالوان الغريبة والعجيبة التي لا يُعرف اصلها من فصلها ولا تعرف عناوينها ولا الجهات التي تتعامل معها ولمصلحة من تفعل افعالها ولخدمة من وما هي أهدافها واغراضها ومن هو المستفيد منها. فهذه الالوان قريبة من مدارس ومناخات «الطرف الثالث» و«الطابور الخامس» فهي تعمل على الارجح لخدمة احداث الفتنة لمصلحة جهات دولية كبرى تستفيد من زعزعة الاستقرار وتحطيم الدول وتمزيق الشعوب.
الالوان هذه اشبه برؤوس الفتنة تطل برأسها حين تخطط الولايات المتحدة لاحتلال بلد مسلم أو عربي وتختفي مع اختفاء أميركا ثم تنتقل معها وبها من بلد إلى آخر. فحيث توجد قوات الاحتلال توجد هذه الالوان وتطل برؤوسها لزرع الفتنة والشقاق والنفاق وتعطيل امكانات الوحدة والتوحيد والمقاومة ضد الجيوش الغازية. فهذه الالوان ملتوية الأهداف وتتلون في كل بلد بحسب الظروف والبيئات لأنها في النهاية تعمل لجهات مجهولة ولمصالح دولية كبرى تستفيد من اشعال الفتن والحروب لتمرير استراتيجية أميركية تصب في النهاية لمصلحة «إسرائيل» وطوابيرها. وهذه الالوان المتغيرة والملتوية والمتنقلة لا تستطيع ان تنجح في مهماتها من دون مساعدات ومعونات وتسهيلات وتدريبات. فمثل هذه الالوان تعمل بحسب الحاجة ولمصلحة قوى كبرى تخطط لمشروعات سياسية خطيرة تتجاوز حدود العراق ومحيطه.
في لبنان لم تكن هذه الالوان معروفة في سبعينات القرن الماضي. آنذاك كان «الطابور الخامس» يعمل لمصلحة جهات دولية ونجح في مهمته بعد سنوات وسنوات من الضغط المستمر على الاطراف المحلية. الآن غاب «الطابور الخامس» عن الساحة الدولية ليتلون بطوابير متعددة الرؤوس تطل برأسها كلما وجدت ان احتمال هزيمة الاحتلال في العراق مثلا باتت واردة. فهذه الرؤوس لا تعمل لوحدها بل هناك من يسهل امرها ويفتح لها الابواب لتوغل في الدم العراقي حتى تبرر للغزاة افعالهم. فهل ينجح العراق في احتواء تلك الالوان ام انه سيسقط ضحيتها كما حصل في لبنان؟ هذا مجرد سؤال
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 545 - الأربعاء 03 مارس 2004م الموافق 11 محرم 1425هـ