العدد 545 - الأربعاء 03 مارس 2004م الموافق 11 محرم 1425هـ

علاقة متوازنة ومتبادلة ومتكاملة

الدولة والمجتمع في النظام الإسلامي:

بغداد - محمد عبدالجبار 

تحديث: 12 مايو 2017

يعمل الاسلام من أجل إقامة علاقة سليمة بين الدولة (بمعنى السلطة أو الحكومة) وبين المجتمع (أو الأمة أو الشعب)، وتقوم سلامة هذه العلاقة على اساس التوازن والتبادل والتكامل. والمعروف ان العلاقة بين الدولة والمجتمع احدى المسائل المهمة التي تواجهها المجتمعات، وتسعى من أجل اقامتها على اسس سليمة تضمن انسيابية العلاقة بما يؤمن استقرار المجتمع والحكم، وتعاونهما. فالتوازن يعني توزيع القوة بالتكافؤ بين الدولة والمجتمع، وعدم تغليب قوة الدولة على المجتمع، أو بالعكس. ويتحقق التبادل بسبب وجود منظومة الحقوق والواجبات المتبادلة بين الدولة والمجتمع. فللدولة حقوق ازاء المجتمع، كما ان لها واجبات نحوه، ويقال الشيء نفسه عن المجتمع، إذ ان عليه حقوقا امام الدولة، وله واجبات ازاءها. اما التكامل فيعني ان مفردات الحقوق والواجبات وبقية تفاصيل العلاقة منظور لها ان يكمل كل طرف الطرف الآخر، فالدولة تكمل المجتمع، والمجتمع يكمل الدولة.

وتتضح ابعاد هذه العلاقة في النص الطويل الآتي: للأمام علي (ع) الذي مارس الحكم والخلافة من موقف العلم والفقاهة، إذ كان افقه صحابة رسول الله واقضاهم؛ إذ يقول: «ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكأفأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضا ولا يستوجب بعضها إلا ببعض. واعظم ما افترض سبحانه من الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة الا باستقامة الرعية.

فإذا ادت الرعية الى الوالي حقه، وأدى الوالي اليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطالع الاعداء. واذا غلبت الرعية واليها، أو اجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور وكثر الادغال في الدين وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الاحكام وكثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الابرار وتعز الاشرار وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه». ويقول الامام علي في مكان آخر «ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم علي حق. فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين امركم».

والواضح ان الامام علي يتصور في هذا النص حالتين من العلاقة غير السليمة، هما: الحال الأولى، «اذا غلبت الرعية واليها»، وتعني هذه الحال هيمنة المجتمع على الدولة، إذ يكون المجتمع اقوى من السلطة، وتكون كلمته، اما بالممارسة المباشرة أو عبر الهيئات التمثيلية، اقوى من كلمة السلطة، التي لا تستطيع ان تفرض شيئا خلافا لرأي المجتمع.

وتتراوح سلطة المجتمع في هذه الصيغة من حال الى اخرى، وتبلغ ذروتها في حال تحلل الدولة أو السلطة، إذ تكون السلطة اسما بغير مسمى، ولا تمارس أي سلطة او نفوذ على المجتمع، كما كان الحال في اواخر حكم السلطة العباسية إذ اصبحت الخلافة بلا حول أو قوة. ان الامر قد يسوء هنا إلى درجة اشعال فتيل حرب اهلية، أو عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها ازاء المواطنين والوطن، فتنفلت الاوضاع ويضطرب الأمن ويمطع الاعداء بالوطن والدولة. الحال الثانية، «اذا اجحف الوالي برعيته» وتعني هذه الحال هيمنة الدولة على المجتمع، إذ تميل الكفة إلى صالح الدولة، وتكون السلطة اقوى من المجتمع. وتتراوح قوة الدولة في هذه الصيغة من حال اخرى، لكن تبلغ ذروتها في الانظمة الفرعونية، أو الدكتاتورية، إذ تكون قوة السلطة مطلقة في مقابل المجتمع الذي يفقد الحول والقوة امامها. والدكتاتورية والظلم يولدان ردود فعل عنيفة، فيلجأ المجتمع الاهلي اما الى العزوف عن الحياة العامة، فتسود السلبية، أو الى العمل السري والمسلح من أجل رد رفع الظلم واسقاط الدكتاتورية.

وفي الحالتين فان النتيجة الكبرى تتمثل في ضياع الدولة والمجتمع معا، وهذر الطاقات وتعذر تحقيق أي اجاز ذي شأن على اي مستوى من المستويات الحضارية التي تتطلع اليها عادة الشعوب والامم. ويحذر الامام علي من ان نتائج هاتين الصيغتين على حياة المجتمع كارثية، إذ يعدد بعضا من هذه النتائج، وهيك «اختلاف الكلمة، وظهور معالهم الجور ويكثر الادغال في الدين وترك محاج السنن، وبالهوى، وتعطيل الاحكام وتكثر علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل إلا برار وتعز الاشرار وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد». يرفض الاسلام هاتين الحالتين معا ويدعو الى اقامة العلاقة المتوازنة والمتبادلة والمتكاملة بين الدولة والمجتمع، تلك العلاقة القائمة، كما قال الامام علي، على اساس «صلاح الولاة واسقامة الرعية». والسؤال كيف يحقق الاسلام هذه العلاقة المتوازنة والمتبادلة والمتكاملة بين الدولة والمجتمع؟

أولا، عبر الإقرار باستقلالية كل من الدولة والمجتمع عن بعضهما بعضا، مع وجود الروابط المتينة بينهما، وخصوصا عبر منظومة الحقوق والواجبات المتبادلة والتكاملية بين الطرفين. ونستطيع تلمس الاستقلالية في بنائها العلوي في الكثير من الأحكام والأنظمة والتعاليم الواردة في الإسلام. من ذلك على سبيل المثال التمييز في نظام الملكية الاقتصادية بين ما هو ملك للدولة وبين ما هو ملك للأمة، ووضع نظام الوقف الذي يضع قسما مهما من ثروة البلد ومرافقه في يد المجتمع الأهلي بعيدا عن تدخل الدولة وسلطاتها.

ثانيا، من خلال مساواة الدولة والمجتمع في خضوعها لحاكمية الله التي تعبر عنها الشريعة الإسلامية. فالحاكم والمحكوم سواء في موقفها إزاء الشريعة في النظام الإسلامي، ولا يسوغ للدولة وأشخاصها، ومؤسساتها أن تكون فوق الشريعة، أي فوق القانون. ونجد أروع مثال على ذلك في وقوف الحاكم والمواطن على قدم المساواة أمام القاضي، الذي عليه أن يصدر الحكم ليس بناء على الوضع السياسي الاجتماعي للماثلين أمامه، وإنما على أساس الحكم الشرعي المحاد والذي لا يميز بين الحاكم والمحكوم.

ثالثا، من خلال التحديد الصارم للموقف الدستوري للحاكم وللمجتمع معا. ففي النظام الإسلامي تكون الأولوية للأمة، أي للمجتمع، بوصفها هي المستخلفة في الأرض، فالسلطان بموجب الاستخلاف الإلهي للأمة، وليس للحاكم أو الدولة. وليس الحاكم سوى وكيل للأمة أو نائب عنها في تسيير الأمور وتطبيق القانون. وبناء على هذا الموقف تمارس الأمة ثلاث صلاحيات أو حقوق هي: اختيار الحاكم، ومراقبته، وأخيرا اقالته إذا أخل بشروط الوكالة والنيابة. وتعطي هذه الصلاحيات قوة للأمة على الحاكم، ولكن من واجب الأمة أن تطيع الحاكم مادام لا يخالف الشريعة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا الواجب يعطي للحاكم قوة فوق الأمة. ولكن القوتين متوازنتين ومتكاملتين ومتبادلتين، كما قدمنا في صدر المقال





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً