فتح الملف ثم أقفل وبسرعة لم يتوقعها أحد، واقصد به ملف (الرشا النفطية وغيرها) التي تسلمها البعض من النظام العراقي السابق. لست معنيا كثيرا بملف الرشا للتجار أو حتى السياسيين أو الفنانين على رغم خطورتها، ولكن ما يعنيني هنا أكثر ملف (الرشا وأشباهها) التي قدمت إلى الصحافيين والعرب منهم خصوصا، بسبب أن هؤلاء قادة رأي، والتضليل في الرأي كوصف الطبيب السم لمريضه، يعاقب عليه القانون بعقوبات مغلظة.
الملف فتح في مجلة «روز اليوسف» القاهرية، وهي مجلة لها تاريخ طويل في متابعة ومناقشة القضايا الساخنة، وكانت تناولت على مدى أكثر من عدد لها موضوع الرشا تلك وخصوصا للصحافيين المصريين، التى تعنى بهم قبل غيرهم. وفوجئت شخصيا بان بعض أصحاب الصحف اعترف بقبول المرسيدس (وبيعها لمصلحة خزينة الصحيفة).
حقيقة الأمر أن الحديث العربي عن «ديمقراطية» مبتغاة وحرية صحافة، وحرية رأي، لا معنى له في ظل صحافة أو صحافيين مرتشين أو صحافيين يقبلون الهبات من اولئك الناس أو الحكومات أو الشركات التي يتابعون عملها، ذلك يضرب صدقية الصحافي والصحيفة في الصميم، ونقل عن علي أمين انه قال لبعض محرريه المنتدبين لتغطية أعمال بعض الوزارات: «نريدكم مندوبين للصحيفة في الوزارة، لا مندوبين للوزارة في الصحيفة».
إن رحلة الكلمة من ذهن الصحافي العربي إلى يد القارئ دونها عقبات ومخاطر شتى عكسها بوضوح ترتيب الدول العربية في قائمة تضمنها تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» الذي صنف معظم دول العالم وفقا لدرجة احترامها الحريات الصحافية، 139 دولة تضمنها هذا المؤشر، لم تحظ أي من الدول العربية بموقع جيد ضمن الخمسين دولة الأولى، فلبنان قبلة الحريات الصحافية في عالمنا العربي كما يعتقد البعض، احتل المرتبة السادسة والخمسين وتلته البحرين في الترتيب السابع والستين، وبعد إحدى عشرة دولة جاء ترتيب الكويت في مرتبة 78، في منطقة الثمانين والتسعين شغلت الدول العربية أكثر من موقع فاحتلت السلطة الفلسطينية رقم 82 وتلاها المغرب في الموقع 89، ثم الجزائر في الموقع 95، فالأردن في 99. فما بالك ان زدنا هذه العقبات التشكيك في الصحافي نفسه.
من أجل ذلك تناول الكثيرون أهمية حرية الصحافة العربية من أجل بناء مجتمع عربي حر ومتفاعل مع العالم، كما تناولت الأقلام العربية منذ فترة طويلة التضييق على الصحافة العربية على أنها إحدى معضلات التنمية والإصلاح، واشتكى الجميع من أن الحريات المتاحة للصحافة العربية هي من أضيق الحريات المتاحة في العالم. إلا أن السكوت عنه هو تخريب لبعض الصحافيين، بقبولهم للرشا، مثل تلك الجهود ووضع عمل غالبيتهم موضع الشك إذ البعض فاسد، من هنا فان تطهير الصحافة نفسها من الفساد يعطيها قدرة عملية وموقفا أخلاقيا يمكن الدفاع عنه، وسكوتها عن ذلك يزيدها اتهاما.
في دراسة لـ «اليونسكو»عن الموضوع ان الكثير من البلدان استخدمت ما يسمى «لوائح القيم في الإعلام» وطبقها حتى الثمانينات حوالي ستون بلدا، بمستويات مختلفة طبعا، وهي قواعد لضبط السلوك المهني في مجال الصحافة، وأنشأت هذه البلدان مجالس ومؤسسات مختلفة سميت بتسميات كثيرة، هدفها ضبط العلاقة بين الصحافة والمجتمع من أجل تحقيق صدقية أفضل لهذه المهنة التي يرفعها البعض لان تكون رسالة. ففي بلاد مثل الولايات المتحدة وفلندا وبلجيكا وفرنسا والسويد والمملكة المتحدة ومصر وبلاد أخرى كثيرة شكلت ما يعرف بـ «مجالس للصحافة». وتختلف هذه المجالس من حيث المنشأ والتسمية والتشريع والسلطات المخولة لها من بلد إلى آخر، كل حسب ظروف الدولة والمجتمع، (في مصر التسمية هي المجلس الاعلى للصحافة، وفي بريطانيا مجلس الصحافة).
ومهما اختلفت التسميات فان هذه المجالس تحاول نظريا على الأقل أن تلبي الهدف الكبير وهو ضبط العلاقة بين المجتمع وبين الصحافة، حتى لا تجور الصحافة على ثوابت المجتمع وتقدم وقودا للصراع الداخلي أو الاستفزاز الخارجي بما تنشره ويضر ضررا كبيرا بالمجتمع والدولة، وهي تعالج القضايا المهنية والادارية الفنية، وحتى يتحلى الصحافي بمهنية عالية لها قواعد ثابتة ومحترمة من الجميع. ويشغل هذه المجالس أهل الثقة والرأي والتجربة والقانون في مجتمعاتهم.
وتختلف الدول في معالجة المشكلات التي تظهر، فبلاد مثل بريطانيا يعتمد مجلس الصحافة فيها على السوابق ويصبح التراكم هو مدخل معالجة الأمور، ويتحول إلى تقاليد واجبة الاحترام، بينما في بلاد مثل مصر يلجأ المجتمع إلى التشريع القانوني، حتى وقت قصير، الذي اختلف بعد المعارضة التي تصدى لها الصحافيون المصريون ضد قانون الصحافة المقترح العام 1993 الذي كان يغلظ العقوبات على الصحافيين، وتوصل الجسم الصحافي مع الدولة إلى حل وسط العام 96 هو (ميثاق شرف) يحترمه الصحافيون والدولة، إلا أن هذا الميثاق لم يطبق بعد منذ صدوره، ولو طبق لقدم (صحافيو الرشا) إلى لجنة تحقيق، ومن تثبت عليه التهمة يفصل من عمله كصحافي.
من أوائل مواثيق الشرف التي تعنى بتوازن العمل الصحافي والصدقية العالية للمهنة ميثاق شرف الصحافيين الفرنسيين الذي ظهر إلى الوجود في الثلث الأول من القرن العشرين، وحدد بوضوح تحريم الخلط بين «مصالح الصحافي الخاصة» وبين «عمله في الصحافة» ومتى تم هذا الخلط فصل الصحافي من عمله، مثله مثل الطبيب الذي يثق به الناس ثم يتصرف في عمله تصرفا مشينا.
جانب من محنة الصحافة العربية انه بجانب التشريعات المقيدة لها والكثيفة، لم تتمكن هذه التشريعات من ردع بعض الصحافيين من الخلط بين مصالحهم الذاتية والشخصية وبين ما يعتبره الجمهور مصالح عامة، وبالتالي هناك شكوى عامة من تدخل المصالح الخاصة في توجيه الجمهور. هناك فصل في الصحافة المحترمة بين الاعلان والتحرير، لا يجوز الجمع بينهما، بينما تعتبر كثير من الصحف العربية أن تشجيع الصحافي على جلب الإعلان، شطارة يجب أن تعمم
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 544 - الثلثاء 02 مارس 2004م الموافق 10 محرم 1425هـ