العدد 543 - الإثنين 01 مارس 2004م الموافق 09 محرم 1425هـ

إلى أين سيأخذنا «الأخ» الأكبر؟

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ليس هناك ما هو أسوأ لمجتمع من المجتمعات من مسئول «يحتل» منصبا رسميا رفيعا يعيش في وادٍ ومجتمعه في وادٍ آخر. النتيجة تكون مدمرة جدا، فالقرارات تكون خاطئة في كثير من الاحيان، والتفكير في هذه الحال أشبه بتفكير الشخص الخارج من ماخور. فنجد أنفسنا مرة أخرى أمام مشهد «حسين بن عاقول» في «درب الزلق»، حين عطّر ببصقته وجه خاله (قحطة)، ثم ثنّى بزوج أمه (أبوصالح) ببصقة أخرى، ثم جاء الأحمق الثالث ليتلقى البصقة العالمية الثالثة!

وكتبت مرة عن هذا الموضوع في أعقاب «واقعة» نانسي عجرم، وفهمها البعض انتقادا للصغار الذين حطّموا الاشارة الضوئية عند مدخل الديه، ولكني أصارحكم ان القصد هو عقلية أصحاب الأبراج الذين لا يعيدون التفكير في مجريات الأمور، فيقعون كل مرةٍ في الأخطاء نفسها، ولا يستفيدون من تجاربهم على الإطلاق، فيدفع البلد ثمن أخطائهم في كل عامٍ مرة أو مرتين، ثم لا هم يتوبون ولا هم يستعتبون!

حينها ذكّرت بقضية الماراثون الشهيرة التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات مطلع التسعينات. وما حدث في الماراثون كان جرس إنذار يفترض أن وعاه الجميع، فوجود مجموعة من الاجنبيات في سباقٍ يرتدين ملابس قصيرة أمر غير مقبول في مجتمع محافظ متدين، وشكّل ذلك استثارة للنفوس. وعلينا أن نفهم هذا المجتمع الذي نعيش فيه، ونجنّبه مزيدا من المعاناة والإرباكات. ولا داعي للمكابرة على طريقة من يرى الغراب يطير فيصر على انه عنزة سوداء!

ويجب أن يكون من المسلمات المعروفة للجميع أن على هذه الجزر الوادعة يعيش شعب محافظ، أحبّ ذلك منا من أحبّ وكره من كره. ومهما كانت سلبيات هذا الشعب ونواقصه فإنه لا يريد أن يرى مظاهر تجرح الشعور العام أو تمثّل استهتارا بقيمه ومبادئه. شعبٌ يقارب تعداده نصف مليون، يخرج منه قبل شهر واحد 12 أو 15 ألف نسمة إلى الحج. شعبٌ يخرج ثلثاه على الأقل في أيام محرم الحرام إلى الشوارع ليبكي ويلطم صدره على الحسين الشهيد (ع) في كربلاء قبل 14 قرنا، فيما يخرج الثلث الآخر إلى أداء عمرة عاشوراء. شعبٌ هذه سجاياه من الصعب أن يتوقع المراقب منه أن يسكت على عرض برنامج أقل ما يقال فيه إنه تقليد على طريقة الشمبانزي في الغابات الأفريقية.

علينا أن نفهم الآلية التي تحكم حياة هذا الشعب الوادع المسالم، أما الذين يزعقون في اعقاب كل «واقعة» ويشتمون ويسبون، ويتعلم الناس من كتاباتهم الفحش والبذاءة، ويمارسون سياسة «التطهير» الفكري على طريقة «رمتني بدائها وانسلت»، فهؤلاء «الكتبة» لا يريدون الاقتراب من جذور المشكلات لحلها، وإنما يمارسون نوعا من الإستغباء والمكابرة والتضليل. بل إنهم يسهمون بكتاباتهم «التحريضية» المسمومة، في تعقيد الامور وتراكم المشكلات التي يعاني منها الوطن.

إذن معرفة السبب هو الخطوة الأولى للعلاج، ولا يكفي ان تعتقل مجموعة من المحتجين، فسيخرج من ورائهم أضعاف مضاعفة، في ظل وضع مادي غير مريح وبطالة متزايدة وبرامج تلفزيونية تعرض دون رقابة أو تدقيق، وتمتليء بفنون العنف وأساليب الإعتداء.

وعلى كل من يهمه الامر أن يعي ما يجري في البلد، ومن الواجب على من يتحمل أية مسئولية في أي وزارة أو إدارة عامة، أن يفهم ماهية مجتمعه، لا أن يعيش في برجه العاجي. ولن تجدي المكابرة في أنه سيبقى في هذا المنصب «مهما قلتم وكتبتم»، فهذه العقلية «المتشددة» لا تعرف لغة الإصلاح ولا الحوار ولا آخر ما انتهت إليه الحضارة المدنية الحديثة من وسائل التفاهم، وانما تعيش على ميراث الحجاج الشاهر سيفه على الدوام، ولا يجيد غير التهديد بقطع الرقاب والأرزاق.

المقارنة القاتلة

ولأننا لا نعرف مجتمعنا فإننا نقع في الحفرة ذاتها كل مرة، من «واقعة الماراثون» إلى «نانسي» إلى «الأخ الأبله». قتلتنا مقارنة حالنا بسنغافورة مرة، ومع بيروت ثانية، وثالثة مع غيرنا من دول الجوار، وننسى قصة ال 12 أو 15 ألف حاج سنويا. ولم نتوقف مرة واحدة لنتساءل: من نكون! في هذا البلد الصغير، الذي يخرج منه 12 ألف حاج سنويا، وهو أكثر من ضعف العدد المحدد للبحرين بحسب نظام الكوتا. مثل هذا الرقم له دلالاته الكبيرة التي تفرض على أصحاب «المبادرات» التجارية والمشروعات الترفيهية الناجحة في البرازيل أو فرنسا، أن يعيدوا حساباتهم، ويبحثوا عن مشروعات «أصلح» و«أنسب»، لا أن ينساقوا وراء الرغبة الطفولية التي عاشها بنو إسرائيل حين رأوا الأصنام: «إجعل لنا إلها كما لهم آلهة» فقال لهم نبيهم انكم قومٌ تجهلون!

قبل أربعة أيام كنت واقفا عند المخبز، وجرى حديث بشأن الأخ الأكبر، شاب لم يتخرج بعد من الجامعة التقط الحديث قائلا: «اننا يمكن ان نسكت على البطالة والجوع والفقر، ولكننا لا يمكن أن نسكت على مثل هذه المسألة التي يتم فيها تحدي ديننا ومبادئنا والاستهتار بقيمنا».

هذا الصوت ربما يكون واضحا في كونه مباشرا ولا لف ولا دوران فيه، لكنه مطلب قطاعات كبيرة من المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، ولن تجد قضية توحد الجميع في هذا البلد مثل القضية التي تمسّ مشاعر الناس الدينية وتهزأ بعقيدتهم. النواب قد يتكلمون برهة ثم يسكتون، مناورة أو خوفا أو تكتيكا، أو استسلاما للهجمات الشرسة التي تعرضوا لها طوال الفترة السابقة يوم تكلموا بما يعتقدون في «واقعة» نانسي، ولكن مثل هذا الشاب الصغير ليس لديه ما يخسره، ولن يفكر في البرلمان ولا هم يحزنون، وعندئذٍ لن تجدي كل الأبواق في وقف الزوابع حين تثور. إن في ذلك لبلاغا لقومٍ يعقلون

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 543 - الإثنين 01 مارس 2004م الموافق 09 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً