انتهى يوم الانتخاب في العراق. ولأن هذا البلد يسيرُ إلى قَدَرِه المحتوم، يجدُر بنا فهم ما هو أبعد من ذلك اليوم الفولكلوري. الأبعد بالتأكيد، هو تعميق الفهم أكثر بأصلاب العملية السياسية الجارية، وبحقائق تكوّنها. تحدثت قبل يومين عن مشاكل الطوائف والمذاهب هناك وبلاء الاحتراب بينها، ومُستنبتاتها على جدار السياسة، والدولة العراقية الافتراضية.
اليوم أتحدّث عن قيمة أخرى، أحدّدها بـ «مستقبل التنافس بين الرافعة المذهبية والليبرالية في السياسة العراقية». فما يُلاحَظ اليوم أن التكتّلات الكُبرى باتت تتحدّث بلسان غير طائفي في خطاباتها الانتخابية (وليس في المسلك الإجرائي طبعا). وجُلُّها استُطعِم بموزاييك مذهبي ضمن مُرشّحيه، بعكس ما جرى في انتخابات العام 2005.
فالائتلاف الوطني العراقي بزعامة المجلس الأعلى، ضمّ إلى قوائمه رئيس فرع الجنوب لجماعة علماء ومثقفي العراق (السُّنية) الشيخ خالد الملا، ورئيس مجلس إسناد الأنبار الشيخ (العشائري) حميد الهايس. وكذلك فعل ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي، بضمّه بعض قيادات الصحوة في الأنبار.
لكن الأهم ليس ذلك بالتأكيد. فالضَّم والإبعاد في المُرشّحين بغرض الاستحلاب أو التبرّك أو الاستعراض لا يضرب في جذر المشكلة العراقية. فتمثيل المجموع (النّقي أو المختلط) لدى أشخاص دون مُسمّيات مذهبية هو ما يفيد في هذه الإشكاليّة وليس شيئا آخر. فحين يُفوّض العرب السُّنّة (على سبيل المثال) إياد علاوي لرئاسة مجلس الوزراء، فهذا يعني أن تطورا استراتيجيا طرأ لدى فكر وسلوك ذلك المُكوّن.
هذه هي القضية الأهم والتي بات من الضروري إشباعها جيدا. لماذا؟ لأن القيم الانتخابية لدى الأحزاب الشيعية، مازالت مُنحصِرة في المُسمَّى العام للمذهب، وتستظلّ به ذهابا وإيابا، ليبقى تنافسها ضمن ذلك الخط الأدنى بين المجلس، الدعوة، الصدريين، الإصلاح... إلخ. بمعنى أنه جبر (مذهبي) واختيار (حزبي) في نفس الوقت، قريب إلى الفهم الأشاعري في حرّية الإنسان.
أما الأحزاب السُّنّية فبدَت مُتحرّرة إلى حدٍّ ما من ذلك القيد، حتى مع وجود جبهة التوافق العراقية، التي تصطبغ بلون المذهب السُّنّي. فبعد استبعاد صالح المطلك وظافر العاني من قِبَل هيئة الاجتثاث، واندفاع قاعدتهما الانتخابية نحو إياد علاوي، وأيضا تأييد رافع العيساوي له أصبحت الأمور أكثر وضوحا في هذا الشأن.
ربما تكون الدوافع في ذلك براغماتية، أو تكتيكية (حسب سوء النيّة) بسبب ظروف ذلك المُكوّن المشطور بين الداخل المهضوم بفِعل الأمن المُغيّب والمشاركة العرجاء، والخارج المقضوم في حقّه الدستوري، إلاّ أن الأمر بدأ في التشكّل، وقد يتطوّر إلى منحى أكثر اتّساعا في مقدّمته، وأكثر جاذبية ووطنية في ممارسته العملية للسياسة، سواء داخل التشريع أو التنفيذ.
فالحقيقة التي لا يُمكن تجاوزها في هذا المحور، هي ضياع كتلة بشريّة سُنّية هائلة في الخارج. فهناك (حيث الخارج) يوجد أربعة ملايين وأربعمئة ألف عراقي مَهجَري. ثمانون بالمئة منهم من العرب السُّنّة. بمعنى أن تعدادهم يصل إلى ثلاثة ملايين ونصف المليون. في حين سمحت المفوضية العليا للانتخابات مؤخرا لمليون وأربعمئة ألف عراقي فقط في المهجر من شتّى المشارب المذهبية والقومية للإدلاء بأصواتهم.
ثم قزّمت تلك الهيئة من نسبة التصويت أكثر بعد قرارها بعدم إعطاء العراقيين الذين يحملون جوازات سفر من نوع G و S من التصويت في مراكز الاقتراع (سواء المدعومة بوثيقة أم لا)، الأمر الذي يعني أن نصف التصنيف (أو أقل بقليل) للجوازات المُستخدمة من قِبَل عراقيي المهجر قد حُرِمَ أصحابها من التصويت.
وبحسب القانون الانتخابي العراقي فإن عدد المقاعد التي ستُعطى لهؤلاء مقارِبة لنسبة الخمسين بالمئة ضمن تعداد الثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، وليست متوافقة مع الأرقام الأكثر عدالة والتي تلامس في حقيقتها الثمانين بالمئة. بمعنى أن الثلاثين مقعدا في حالة احتساب نسبة السبعين بالمئة، أو الستة والعشرين مقعدا في حالة الستين بالمئة هي خارج الحِساب حتما.
وبالتالي فإن التمثيل الحقيقي لعراقيي الخارج، فضلا عن العراقيين السّنّة المُهجّرين لن يتم، لكنه سيكون أكثر التصاقا بخيارات المُكوّن في الداخل ومُشكلاته طيلة السنوات الماضية حسب الاستطلاعات. وإذا ما تحقّق ذلك، فإن قدرة العراقيين على تجاوز الهَوَس المذهبي قد بدأت، وانحسرت دفوع الأحزاب الدينية الحاكِمة، الأمر الذي سيضطرها لأن تتخلّص من احتمائها (أو استثمارها) للدين والمذهب، كما فعلت منذ العام 2005.
ومثلما أدّت الحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبرتستانت في القرن السادس عشر، إلى إبعاد الانتماء الديني عن الوعي الأوربي، وإنماء عقائد أرضيّة، تُدعّم من مكانة الأمّة الجامعة والشاملة، فإن الحال ذاته قد يتكرّر في العراق اليوم وخلال السنوات القادمة. فالهوية تُنسَج على وتيرة العلاقات القائمة بين البشر، وعلى قدرة الأنظمة الحاكمة (من عدمها) على احتواء المجموع مهما كان لونه.
فدورة انحلال الآيديولوجيات الأرضية لم يَحِن في العراق بعد، حين ابتعدت (أو أبعِدَت بقصد أو دون قصد) عن الإمساك بأمور الدولة. اللهم إلاّ في حقبة مجلس الحكم، الذي تواترت على أكفّ أعضائه راية الحكم الصوري، وهم مزيج ما بين إسلاميين وعلمانيين، فضلا عن نصيب القوميات الأخرى فيه.
بل بالعكس، فقد أصرّت الأحزاب الدينية بعد سقوط بغداد في 09 أبريل/ نيسان إلى نيل السلطة والاستئثار بها والثأر من عليها ضد خصومها، في ظلّ عراق هشّ وضعيف، تمّ إسقاط سقفه على قاعه، الأمر الذي ضاعف من صعوبة الأوضاع والمتطلبات بشتّى أشكالها، فأكلت تلك الأحزاب نصيب الأسد من الإخفاق والفشل، وتردّي الأوضاع الخدمية والأمنية والسياسية، فانعكس ذلك على حضورها في الشارع.
وسواء أعَكَست الانتخابات ذلك أم لم تعكس، فإن الحال هو كذلك. فظرف لحظة التصويت لا تلعب فيه مُضمَرَات المشاعر والميول المتكوّنة توَّا على أنقاض بناءٍ مُنْهَد، وإنما على الدعايات الأكثر ضراوة، حيث الاعتماد على الدين والرموز الدينية، واستدعاء كلّ ما يلوي من ذراع الناخب، والإمساك برقبته عُنوة. ولننتظر لنرى، من سيفوز بالوطن ومن سيفوز بالوطنية، وشتّان بينهما. وللحديث صلة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2740 - الأحد 07 مارس 2010م الموافق 21 ربيع الاول 1431هـ
تكملة
فالملاحظ طيلة هذا اليوم ان الجميع يدعي حصوله على الاغلبية وهذا تمهيد لضرب الفائز بالمركز الاول وهو ما يعتبر اجهاض للديمقراطية العراقية
القضية المهمة
القضية التي يجب التاكيد عليها هي انه وفي ظل كل هذه الملاحظات على التجربة العراقية يبقى المواطن العراقي رايه محترم ومصان في اي اتجاه رمى في ورقته سواء لهذا او ذاك
اضافة
الاجدى ان يحترم السياسيون العراقيون رغبات شعبهم عبر اعطاء كل الطوائف والاقليات حقوقها في التصويت العادل
تعليق
فليحترم العالم رغبة العراقيين