«وكلوا واشربوا ولا تسرفوا»، كلمات من القرآن الكريم يأمر فيها الله عباده بعدم الإسراف في متطلبات أساسية للحياة، هي حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب. وقياسا على ذلك، لن نجد صعوبة في إثبات أن النهي عن الإسراف ينطبق أيضا على استهلاك الطاقة في المباني. ولعل أكثر المباني التي يجب ألا تقع في خطيئة الإسراف هي المساجد.
للأسف، العكس هو الصحيح، وخصوصا في دول مجلس التعاون الخليجي إذ تنزع المساجد عموما إلى أن تكون متحررة في استهلاكها للكهرباء، باعتبار أن أجهزة تكييف الهواء ضرورة أساسية، ولأن الكهرباء عادة توفر مجانا للمساجد في هذه الدول، فإن الدافع إلى تقليل استهلاك الكهرباء في المساجد يكاد يكون معدوما، سواء عند تصميمها أو تشغيلها. وليس غريبا أن تجد مسجدا مضاء بكامل إنارته الداخلية في منتصف النهار، والمكيّفات فيه تعمل بشكل شبه متواصل للوصول إلى درجة حرارة أبرد من اللازم، على رغم وجود شخصين أو ثلاثة داخل المسجد في غير أوقات الصلاة.
صحيح أن جزءا من المسئولية عن هذا الإسراف يقع على المشرفين على المساجد، ومعظمهم قليلو الوعي بعواقب هذا النمط من الاستهلاك. لكن المسئولية الأكبر تقع على عاتق مصمم المسجد، إذ من الممكن أن يراعي التصميم الهندسي ضعف الوعي لدى المستخدم، بل إن كثيرا من تصاميم المساجد لا تساعد حتى من لديه وعي ورغبة في تقليل الاستهلاك.
وحاولتُ من خلال تدريسي مساقا دراسيا لطلاب هندسة العمارة في الجامعة الأميركية في الشارقة، حث معماريي المستقبل على الاهتمام بخفض استهلاك الطاقة من خلال التصميم المعياري، كبداية مهمة للحد من الإسراف في استهلاك الطاقة في المساجد. وطلبتُ منهم أن يطبقوا ما درسوه من مبادئ التصميم البيئي في الوصول إلى تصميم معماري متلائم مع مناخ مدينة أبوظبي، التي اختيرت بسبب توافر معلومات كافية عن المناخ فيها طوال العام.
أجرى الطلاب دراسة تحليلية لمناخ أبوظبي، مستعينين ببرنامج كومبيوتر حول بيانات الطقس في العاصمة الإماراتية. على ضوء ذلك أخذوا قرارات استراتيجية للتعامل البيئي مع هذا المناخ، الذي يمكن تقسيمه إلى مناخ معتدل خلال الأشهر الممتدة من نوفمبر/ تشرين الثاني إلى أبريل/ نيسان، وحار رطب خلال بقية العام. وعلى هذا الأساس تقرر استعمال استراتيجية التهوئة الطبيعية خلال أشهر الاعتدال. أما خلال فترة المناخ الحار والرطب فكان لابد من استعمال أجهزة التكييف، ولكن مع مراعاة أمرين: الأول هو تقليل الأحمال الحرارية قدر الإمكان من خلال الاختيار الصحيح للتصاميم المعمارية وبالتالي تقليل حجم أجهزة التكييف ومقدار استهلاكها. أما الأمر الثاني فهو استعمال الطاقة الطبيعية الموجودة في الموقع والمستمدة من أشعة الشمس قدر الإمكان لتشغيل هذه الأجهزة.
وكانت الفكرة المختارة لتحقيق هذا الأمر استعمال أجهزة التكييف الامتصاصية (Absorption Chiller) التي تحتاج إلى الحرارة أساسا (وليس الكهرباء) كي تقوم بتبريد الهواء، وبالتالي يمكن امتصاص تلك الحرارة من أشعة الشمس الساقطة على سطح المبنى بواسطة الأنابيب المفرغة أو غيرها من طرق تسخين الماء. ويستعمل الماء الساخن لتشغيل أجهزة التكييف الامتصاصية.
التحدي الأساسي الذي واجهه الطلاب هو كيفية تطوير تصميم معماري لمسجد يعكس هذه القرارات الاستراتيجية المبنية على متطلبات بيئية. ووجهتُ الطلاب ألا يتقيدوا بتقاليد معمارية تاريخية ـ مثل وجود قباب أو أقواس ـ عند التصميم. ولكن وجود المئذنة كان مبررا نظرا لما تعطيه من توجيه لموقع المسجد.
نجح الطلاب في التحدي بدرجات متفاوتة. وكان من الأفكار الجيدة التي طوروها استخدام المئذنة كمجرى هواء خلال فترات الجو المعتدل. وشملت استراتيجيات التصميم إيجاد فتحات واسعة في المسجد تساعد على التهوئة الطبيعية في فصل الشتاء، واستعمالها على غرار المئذنة لالتقاط الرياح. كما طوروا شكل سطوح المساجد وتوجيهها لتعظيم الاستفادة من الإضاءة الطبيعية، وإمكان التقاط الطاقة الشمسية بواسطة لاقطات تشغل أجهزة تبريد امتصاصية أثناء الصيف.
الأهم من نجاح الطلاب في إنجاز تصاميم معمارية جيدة هو انتهاجهم طريقة مختلفة للوصول إلى تصاميم تعتمد أساسا على المتطلبات البيئية وتعمل على تقليل استهلاك الطاقة المطلوبة لخدمة المسجد. وبالتالي أصبح الاهتمام بمتطلبات الطاقة في أولويات تفكيرهم، وهو ما أرجو أن يحافظوا عليه طوال حياتهم العملية كمعماريين.
العدد 2738 - الجمعة 05 مارس 2010م الموافق 19 ربيع الاول 1431هـ