في أحد أيام 1973، طرق المشرف الاجتماعي باب الصف السادس الابتدائي، وطلب أحد التلاميذ. وفي ساحة المدرسة، حاول أن يقنعه بالبقاء وعدم السفر مع والده إلى العراق، لكيلا يخسر امتحانات منتصف العام. وبعد المحاضرة الطويلة سأله: ماذا قلت؟ فأجابه الطالب الصغير بكلمة واحدة: «سأذهب».
وهكذا ركب لأول مرةٍ في حياته الطائرة التي ستقله مع أبيه إلى بغداد. وفي الطريق إلى كربلاء، توقّفت سيارة الأجرة في إحدى الاستراحات لتناول الغداء. وهناك أفزعه منظر التوابيت التي رآها، فهدّأ الأب من روعه، فهناك الكثير من التوابيت عليه أن يعتاد عليها فلا يخاف.
وفي الطريق الطويل، كان يرى طوابير من الناس يمشون، فسأل أباه: لماذا لا يركبون السيارات؟ أليس عندهم فلوس؟ فأجابه: هم لن يركبوا في السيارات حتى لو وقفت إليهم، فهم يطلبون الثواب بزيارة كربلاء مشيا على الأقدام.
وفي تلك المدينة العتيقة العتيقة، استأجر الأب غرفة واحدة بالطابق الأول بأحد البيوت، وفي كل صباح كان يمنح ابنه بعض النقود ويترك له حرية الحركة حتى وقت الغداء. وكان الصغير ينزل إلى السوق يتجوّل، يشتري لأخوته بعض الألعاب الصغيرة والشموع، ويتوقف أمام بعض الأكشاك والمكتبات التي تجتذبه، باحثا عن بعض الكتب التي أوصته سيدتان بشرائها لمأتم النساء، الأولى جدته، والثانية بنت المعلم، جارتهم التي علّمته القرآن.
وكان مما اشتراه ورقةٌ صغيرةٌ مطوية، عبارة عن قصيدةٍ عاميةٍ مشهورة مطلعها «جابر يجابر ما دريت بكربلا شصار». وها هو الآن في كربلاء يسمع ويرى، إذ استهواه الذهاب إلى بعض الأماكن: تل الزينبية الذي طالما سمع أن زينبا وقفت عليه تنادي أخاها العباس؛ والمخيّم (وهو بناء من الاسمنت على شكل خيام صغيرة) تتوسّطه خيمةٌ كبيرةٌ أشبه بفرشة العرائس، كان من السهل عليه أن يستنتج أنها خيمة القاسم بن الحسن. أمّا الموقع الأخير الذي لن ينساه أبدا فهي دار الإمارة بالكوفة، التي ظلّ منظر خرائبها يتراءى أمامه كلما قرأ كتابا عن عليٍّ (ع). ثم هناك مسجد الكوفة، الذي سيذكره أيضا لأنه تعب لكثرة الصلوات التي يؤديها الزوار في المقامات الكثيرة هناك.
لم يكن في ذلك السنّ الطري يعرف ما يجري في ذلك البلد، الذي كان يشهد حينها حملة تضييق على النشاط الديني حتى مُنع أولئك المشاة بعد ثلاثة أعوام من الوصول إلى كربلاء، وملاحقة علماء الدين انتهت بالكثير منهم إلى التصفية الجسدية. ولم يكن يدري أن السياسة في ذلك البلد المضطرب ستقود إلى هزّات وهزّات، وأن الغيب يخبئ لذلك الشعب مآسٍ وحروبا وأنهارا من الدم والمقابر الجماعية... ظلماتٌ بعضها فوق بعض.
بعد ثلاثين عاما، وبعد ثلاثة حروب، يسقط النظام القمعي ويتغيّر الوضع السياسي رأسا على عقب، ويعود ملايين العطشى يتدفّقون كالسيل كل عام. يأتون من أقاصي العراق مشاة شعثا غبرا، لا يحملون فوق ظهورهم زادا، ولا يستقلون راحلة، ضيوفا تهوي أفئدتهم نحو مقام سيد شباب أهل الجنة، كما تهوي قلوب الملايين نحو مقام أبي الأنبياء إبراهيم (ع) في مكة، وحفيده النبي محمد (ص) في المدينة... ذرية بعضها من بعض، ذلك السر الإلهي الأكبر الذي يصل الأرض بالسماء
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2354 - السبت 14 فبراير 2009م الموافق 18 صفر 1430هـ