شكلت زيارة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري إلى تركيا محطة مهمة في العلاقات التركية اللبنانية.
فللمرة الأولى يلتقي وفد لبناني برئاسة الحريري وعضوية ثمانية وزراء مع وزير الخارجية التركي لأحمد دافوتوغلو والرئيس التركي عبدالله غول ورئيس الوزراء طيّب رجب أردوغان، وعدد كبير من كبار أصحاب الأعمال والمستثمرين. والأهم أن الاجتماعات أسفرت عن نتائج غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الثنائية، أهمها قرار إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين للمرة الأولى في تاريخهما منذ أن كانا جزءا واحدا من الدولة العثمانية التي انهارت في العام 1918 ليدخل لبنان بعدها تحت الانتداب الفرنسي.
فالذهنية التي سادت في لبنان منذ عقود كانت عموما سلبية تجاه الحالة التركية. فقد كانت هناك نظرة مسيحية سلبية تجاه صورة التركي الذي كان، وفقا لهذه النظرة، يعتبر المسيحيين، خلال الفترة العثمانية، مواطنين من الدرجة الثانية. وكان السعي لاستقلال لبنان عن السلطنة العثمانية بمبادرة من قادة المسيحيين الدينيين على وجه التحديد. وقد أضيف إلى العامل المسيحي في هذه النظرة السلبية تدفق عشرات الآلاف من المواطنين العثمانيين من اصل أرمني خلال الحرب العالمية الأولى إلى لبنان، ولا سيما بعد مجازر 1915 بحق أرمن تركيا من جانب قادة الاتحاد والترقي الحاكمين في الدولة العثمانية وتشكيلهم لاحقا عاملا أساسيا في الحسابات المحلية السياسية. لذا شكل العامل المسيحي،بما فيه شقه الأرمني، عقبة أمام استعداد اللبنانيين لإقامة علاقات جيدة مع تركيا.
ولكن العامل المسلم لا يقل أيضاّ عن العامل المسيحي حيث إن إلغاء الخلافة لاحقا وتأسيس الجمهورية في العام 1923 أثار حنق المسلمين الذين كانوا يتوقون لبقاء تركيا زعيمة للعالم الإسلامي. لذا فإن التوجهات العلمانية للحكومات التركية لعبت دورا سلبيا في النظرة اللبنانية في بُعدها الإسلامي لتعزيز العلاقات مع تركيا.
ولا شك أن العامل الثالث في اعتراف تركيا بـ «إسرائيل» وإقامة علاقات تحالفية معها كان مؤثرا جدا في برودة العلاقات اللبنانية كما العربية عموما مع تركيا بعد العام 1950.
ولم تكن العلاقات اللبنانية التركية في يوم ما ممتازة إلا ما خلا على مستوى السلطة السياسية وفي أوقات توجه السياسة اللبنانية لتكون موالية بالكامل مع الولايات المتحدة، نتيجة لمصالح مشتركة ضد حركة القومية العربية التي رفع لواءها الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
وفي الواقع ما كان ممكنا تحقيق زيارة الرئيس الحريري وبالحجم الذي تمت فيه أيضا لولا توفّر مجموعة من العوامل أهمها على الإطلاق وجود سلطة جديدة في تركيا هي حزب العدالة والتنمية أعطت للعلاقات مع محيطها المشرقي أولويّة. لكن تطور العلاقات التركية مع سوريا كان في منتهى الأهمية لتتقدم العلاقات التركية مع لبنان. فتركيا رغم كل شيء تحاذر أن تقارب العلاقات مع لبنان بعيدا عن التنسيق الوثيق مع سوريا بحيث يمكن القول بكل ثقة انه لولا العلاقات الجيدة بين سوريا وتركيا ما كان ممكنا لزيارة الحريري ان تسفر عن هذه النتائج حجما ونوعا.
وبمعزل عن طريقة ممارسة العلمانية في تركيا، والتي بُدء بها رسميا في نهاية الثلاثينيات بعد تجارب عملية منذ نهاية العشرينيات، فقد كان اعتماد العلمانية في بلد متعدد دينيا ومذهبيا مثل تركيا صمام أمان لترسيخ الاستقرار الداخلي، خصوصا في مجتمع إسلامي متشرّب بالعادات والثقافة الإسلامية، لكنه كان متخما بجراح الصراعات المذهبية بين السنّة الذين يعدون الآن نحو 45 مليون نسمة والعلويين الذين يعدون نحو العشرين مليون نسمة.
لذا كانت العلمنة حلا واقعيا لمجتمع متعدد الديانات والمذاهب وهو ما يمكن ان يستفيد منه لبنان الذي تنخره الطائفية والمذهبية وتحول دون تقدمه على كل المستويات.
مع ذلك فإن التجربة التركية نموذج من حيث المبدأ ولكن ليس لجهة التطبيق الذي شهد ثغرات كثيرة، إذ إن العلمنة الموجودة في الدستور والقوانين كانت تترجم غالبا على ارض الواقع تمييزا ضد العلويين، كما ضد الحريات الشخصية والدينية، ومنها منع ارتداء الحجاب في الجامعات في بلد مسلم بنسبة 99 في المائة.
قد تشكّل التجربة التركية نموذجا للبنان من حيث المبدأ، إن لم يكن من حيث الممارسة دائما. ومن هذا المنطلق، قد يستطيع لبنان، من خلال الحريات الدينية والسياسية التي يقدمها لمواطنيه، أن يشكّل نموذجا لتركيا، الأمر الذي يعود بالفائدة المتبادلة على الدولتين من خلال علاقات أكثر وثاقة ترتكز على المصالح السياسية، إضافة إلى المصالح الاجتماعية والثقافية.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية في بيروت، ورئيس تحرير مجلّة شئون الأوسط في لبنان، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2735 - الثلثاء 02 مارس 2010م الموافق 16 ربيع الاول 1431هـ