العدد 2734 - الإثنين 01 مارس 2010م الموافق 15 ربيع الاول 1431هـ

كبت الكراهية

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

هذا تعبير يحيلنا مباشرة إلى سيغموند فرويد ومفهوم الكبت لديه. وبحسب فرويد فإن لدى البشر غرائز ورغبات أولية وغالبة وتبحث عن الإشباع بأي ثمن، وهذا هو حال الغريزة الجنسية والغريزة العدوانية (والكراهية تتحدّر من هذه الغريزة). إلا أن ثمة طبيعة اجتماعية لدى البشر، وهي طبيعة غالبة كذلك، وهي لا تسمح بالإشباع الحرّ والطليق لهذه الغرائز الخطرة على المجتمع. ومن هنا جرى كبت هذه الغرائز بفعل «الحضارة» وأدواتها وتنظيماتها وقوانينها وأعرافها وتقاليدها وأخلاقها، التي ربما وُجدت، كما يقول فرويد، كي تبعدنا «عن حالة أسلافنا البهيمية» (قلق في الحضارة، ص41)، إلا أنها قد تنقلب إلى منغصّات تحبط سعادتنا حين تعمد إلى الكبت ومنع الإشباع الحرّ للغرائز والرغبات، ومراقبة أية مخالفة لهذا المنع. لقد تمكّنت الحضارة عن طريق هذا المنع/ الكبت من إضعاف الرغبات الخطرة أو التسامي بها، إلا أن هذا لم يكن بلا ثمن وبلا تضحيات.

تتبدى الحضارة وكأنها تقوم على «مبدأ العزوف عن الدوافع الغريزية»، كما لو أن «بناء الحضارة» يقتضي كبت الغرائز الجامحة. في حين كان الإنسان «البدائي المتوحّش»، محظوظا «لأنه ما كان يعرف أي تقييد لغرائزه»، فقد كانت غرائزه المتوحشة وغير المدجّنة أو المروّضة تشبع مباشرة وفي التوّ واللحظة. لم تكن الحرية (الحرية الجنسية مثلا) من نتاج الحضارة، بل كانت «قبل أي حضارة، من أعظم ما يمكن أن تكون»، حتى حصلت القفزة إلى الحضارة في حياة هذا الإنسان، فجرى، «بقوة المحرمات والشرائع والأعراف»، فرض «قيود جديدة على الرجال والنساء»، وحظر صارم على أي ظهور «للجنسية الطفولية البدائية المتوحّشة». وكان نتيجة ذلك أنه جرى تهذيب غرائز هذا الإنسان وترويضها وضبطها وتنظيم عملية إشباعها وفق حدود وضوابط لا تتناسب مع متطلبات هذه الغرائز وضغوطاتها. ومن هنا كان فرويد يرى أن العلاقة بين الحضارة والنمو الطليق والحر والمنفلت لهذه الغرائز علاقة تناسب عكسي.

يمضي فرويد إلى ما هو أبعد من هذا حين يتحدث عن جينالوجيا هذا الكبت وتطوره تاريخيا. فقد كان الكبت في البداية خارجيا تفرضه وتحرسه سلطة الحضارة وأدواتها الخارجية (القوانين والأعراف والتحريمات)، ثم «حدث شيء غريب فعلا»، حيث جرى استدماج هذا الكبت واستبطان تلك السلطة في داخل الجهاز النفسي لكل فرد. وهنا ظهر «الأنا الأعلى» الذي اضطلع، داخل «الجهاز النفسي» لكل فرد، بوظيفة «الضمير الأخلاقي» المكلّف بمهمة «الحدّ من الإشباع» ومراقبته وتقييده بحيث يتناسب مع المتطلبات الخارجية، متطلبات الحضارة وقوانينها وأعرافها وأخلاقها. تمكّنت الحضارة، إذن، من السيطرة على غرائز الإنسان الخطرة والعدوانية من خلال إضعافها وتجريدها من سلاحها ووضعها «تحت مراقبة سلطة كامنة فيه، شبيهة بالحامية التي توضع في مدينة تمّ فتحها».

يدور الحديث في كل هذا التحليل الفرويدي عن النفس وعن الصراع الداخلي بين رغباتها المتعارضة، وعن غرائزها التي تبحث عن الإشباع، وعن السلطات الخارجية التي جرى استدماجها داخليا في صورة «الأنا الأعلى»، وعن الكبت الداخلي للرغبات العنيفة والذي يقي الفرد من الانهيار النفسي. إلا أن عملية «كبت الكراهية» تقع على الضدّ من كل هذا، فهي تتبدّى وكأنها ذات طابع خارجي يلازمها، فالكبت، هنا، كبت خارجي، وهو تعبير عن صراع متعدد الأطراف والأبعاد داخلي مرة (مرتبط بغريزة الخوف على الحياة لدى الضعفاء)، وخارجي سياسي أو اجتماعي في مرات عديدة. وخلاصة الكبت الخارجي للكراهية أن البشر لن يعودوا، بعد اليوم، أحرارا في التعبير الحر والمنفلت عن كراهيتهم وإهاناتهم بحق الآخرين، وأن التجليات العلنية لهذه الكراهية لن تمرّ دون قصاص. وهو قصاص خارجي ولكنه فاعل في تضييق الخناق على التعبير العلني عن هذه الكراهيات التي لم يعد أمامها سوى التحايل على الكبت أو التعبير عن نفسها خلسة وفي الخفاء تماما كما يحدث مع اللصوص والسُّراق، فلا أحد يدّعي أن تجريم السرقة ونفور المجال العام منها سوف ينهي السرقة ويقضي على جميع السّراق، إلا أن أحدا من هؤلاء لم يعد قادرا على السرقة جهارا نهارا، فلم يبق أمامه سوى التحايل على القانون واستغفال الرأي العام أو السرقة اللصوصية في الخفاء وبعيدا عن الأنظار. وهذا ما حصل مع الكراهية، حيث تضافرت مجموعة قوى خارجية عملت على كبت تجلياتها العلنية، فكانت النتيجة أن الكراهية لم تنته، إلا أنها لم تعد كما كانت من قبل، بل أصبح على أصحابها أن يهيّئوا أنفسهم لأصعب أنواع التضييق والإزعاج والتهديد والأذى الذي سوف يستهدفهم في كل مرة يغامرون بإرخاء العنان لكراهيتهم.

يحتاج مفهوم الكبت الفرويدي إلى نقله خارج الذات، خارج العالم الداخلي للفرد من أجل العودة به إلى أصله الجينولوجي القديم وإلى سيرته الأولى حين كان قمعا خارجيا تمارسه السلطات الخارجية على الأفراد. هل هذا دليل على أن البشرية عجزت عن استدماج هذا الكبت داخليا في صورة «الأنا الأعلى» والضمير الأخلاقي؟ لا ينبغي استسهال الجواب على هذا السؤال، فتاريخ البشر وواقعهم يسمحان بإجابات متعارضة عن هذا السؤال، بدليل أن البشر كانوا ومازالوا يكرهون بكل جرأة ودون تأنيب ضمير، فمازلنا إلى اليوم نرى العنصريين والطائفيين والشوفينيين والنازيين الجدد وأمثالهم وهم مسلحون بكامل حقدهم العريق الذي لا ينطفئ ولا يهرم بتقادم الزمن. ومازالت ذكرى مروة الشربيني، المصرية الجنسية، حاضرة وقريبة منا، يوم دفعت الكراهية العمياء ألكس دبليو، الألماني الجنسية الروسي الأصل، إلى طعنها «طعنا وحشيّا» وبدم بارد، مما أودى بحياتها في 1 يوليو2009 أمام نظر محكمة دريسدن (في ألمانيا) وهي تنظر في قضية إساءته وإهانته لها بدافع كراهية المسلمين. وفي المقابل، مازال هناك كثيرون ينتابهم تأنيب الضمير لمجرد إهانة لفظية تصدر منهم تجاه شخص ما.

لا يعني وجود ألكس دبليو وأمثاله فشلا عاما في استدماج السلطة داخليا، كما أن وجود الناس الطيبين سريعي الجرح والتأثر النفسي لا يعني أن الحضارة نجحت في استدماج هذه السلطة داخليا. لكن وجود أمثال هؤلاء البشر المتناقضين إنما يعني أن الرهان لم يعد معلّقا على الكبت الداخلي وعلى قدرة البشر على استدماج السلطة داخليا في صورة «أنا أعلى» يقمع أي تفكير في إيذاء الآخرين وأي إرادة كراهية تتخلّق في نفوسهم. وبدل هذا أصبح الرهان معلّقا على قدرة الكبت الخارجي على إضعاف ومحاصرة كل أنواع الكراهيات التي أصبحت، اليوم، تواجه أشكالا متفاوتة من الكبت والقمع الخارجيين.

ولمعرفة هذا النوع من الكبت سيكون علينا الانعتاق من الطابع النفسي الداخلي لمفهوم الكبت الفرويدي. فكبت الكراهية، كما قلنا، كبت خارجي، والصراع الذي ينجرّ وراءه خارجي أيضا. وبدل أن تكون النفس (العالم الداخلي) ساحة الكبت وموقع صراعه ومقاومته، إذا بالمجال العام يصبح هو ساحة هذا النوع من الكبت والصراع والمقاومة. ولكي نفهم هذه النقلة من النفس إلى المجال العام، ينبغي علينا أن نعيد ترسيم ساحات الوعي واللاوعي بحيث يتمثّل الوعي في المجال العام، ويتمثّل اللاوعي في القنوات الخفية والموادّ مجهولة المصدر. وبهذه الطريقة تكون الكراهية هي الرغبة الآثمة المزعجة التي تُطرد (تُكبت) خارج المجال العام لتستقرّ في ساحات الإنترنت والبيانات والكتيبات والكاسيتات والأقراص الممغنطة مجهولة المصدر (لاوعي المجال العام). وكما يحدث في الكبت الفرويدي، فإن المشكلة لا تنتهي بالكبت، فالمطرود يعاود الظهور والإزعاج ويحدث الضجة والبلبلة وهو في موقعه وساحته، ويحدث أن يعود المكبوت للظهور في ساحات المجال العام (الوعي) إما مواربا ومتنكرا ومقنّعا، وهذه حالة من التحايل على الوعي ليكون صاحب الكراهية في مأمن من المساءلة القانونية والعامة، وإما بصورة سافرة جلية وغير محتملة، وغالبا ما يحدث ذلك في لحظات الطوارئ والأزمات والاضطرابات الكبرى بحيث تضعف قوة المجال العام فيعجز عن كبت الكراهية ومقاومة عودتها المتفجرة. حدث هذا مع الكراهية المتبادلة التي أسفرت عن نفسها بين عموم السنة وعموم الشيعة بعد غزو العراق في أبريل 2003، كما تكرر ذلك في الكراهية المتبادلة بين عموم الجزائريين وعموم المصريين بعد مباراة كرة القدم التي جمعت فريقي البلدين في التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس العام 2010.

إلا أن هذه العودة المتفجرة للمكبوت لا يمكن أن تفهم إلا في أوضاع يكون فيها المجال العام هشّا أو خاضعا وتابعا للدولة. فحين تُرخي الدولة قبضتها عن المجال العام نتوهم أنه أصبح قويا وحرّ نفسه، إلا أن عودة الدولة لإحكام قبضتها عليه مرة أخرى تكشف حقيقة عجزه وتابعيته. أقول هذا، لأنه لا يتصور عودة متفجرة للمكبوت ليعبر عن نفسه بحرية وجلاء في المجال العام إلا بضرب من ضروب التواطؤ الخفي بين الدولة وقوى الكراهية وتجّارها. وقد يعبّر هذا التواطؤ عن نفسه في صورة تحريض الدولة المباشر أو غير المباشر على إنتاج الكراهية وتداولها، أو في صورة الإقرار الضمني بحيث تلتزم الدولة الصمت وتغض نظرها عن عمليات إنتاج الكراهية وتداولها ضمن حدودها بحيث يفلت تجار الكراهية من أي عقاب يستحقونه. وهذا يكشف حقيقة مهمة، وهي أن موقف الدولة من الكراهية موقف تكتيكي يقوم على المصلحة أساسا، في حين أن موقف المجال العام موقف مبدئي لا يتقلب بتقلب المصالح.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2734 - الإثنين 01 مارس 2010م الموافق 15 ربيع الاول 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 12:57 م

      درن ... العقـــــــــــول

      إلى ماذا تطمح التخيلات الواهمة والمتراكمة والتي تتداعى وتتكاثر وتنفجر بمجرد الاحتكاك بالأحداث الخارجية للمجال العام ؟ فالاشتغال والانشغال بإشعال ضغائن الكراهية والانهماك بافتعالها وهبوبها بتعصب ، هذا ويمكن استنباط من ذلك ، أن أساس - كيان - الكراهية يتركز بتجنيد وسائل وغايات في آن واحد ؛ لتتجانس مع درن العقول ولتتسكّع بالخيال ولتسمم الأجواء ! ولتضل وتضلل الحقائق والحقوق وأصحابها . كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض

    • زائر 5 | 10:39 ص

      اما انا

      فكراهيتي ابتدات وظهرت عن السيطرة عندما رايت وواقعت بكل اعضائي وجوارحي هذه الطائفية المقيته من قبل هؤلاء المتطفلين على الاصل في كل مكان م وياريت هذه الطائقية وقفت على فئة فقط بل الدور اليوم على الاخوة السنة مساكين لانهم الاكثر احساحسا وشعورا كونهم اصبحوا اقلية امام المجنسين في المدن البحرينية وياريت ان هولاء المجنسين يحترمون المواطن بل زادو

    • زائر 4 | 7:58 ص

      مع الاعتذار...

      ابتدات الكراهيه للجنس الاصفر لدي عندما سرقوا وزعزعو امن البيوت المعمره بالحب بالاعيبهم وانانيتهم ...وعندمارايت وسمعت عن جرائمهم في حق الاطفال وعندما زادة العنوسه وعندما زين الشباب لهم ...وللكره اسباب...

    • زائر 3 | 4:56 ص

      الى متى

      عندما انطلق قطار التتجنيس وتغير التركيبة السكانية والهوية العربية انطلقت معه الكراهية بسرعة متوازية لقطار التجنيس وتعمقت الطائفية والاحباط واليأس ولحق الدمار بهذا البلد واهله وغابت الابتسامة من على الوجوه

    • زائر 2 | 12:34 ص

      الكراهية ظهرت بالقرب من السفارة البريطانية

      الكراهية ظهرت بالقرب من السفارة البريطانية حين اعتصم السلفي جاسم السعيدي هناك لاعتراضه على لقاء وفد من الوفاق بالسفير البريطاني. كراهيته لوفاق أنسته أن جمعية الاصالة اجتمعت كذلك بالسفير البريطاني. وأحب أن أطمأن السعيدي أن بريطانيا لن تقف مع الوفاق، وتترك حكومة موالية لها ظ،ظ ظ %

    • زائر 1 | 12:22 ص

      دايما الدولة تبحث عن مصلحتها

      السلطة في كل زمان ومكان تبحث عن مصلحتها وين ما كانتز ما عرفت يعني شنو المجال العام

اقرأ ايضاً