في العقد الأول من عُمر الجمهورية الإسلامية كان الحاكمون فيها خليطا من أقليّة يمينية محافِظة (معتدلة) وأغلبية يسارية دينية (راديكاليّة) تستظلّ كلتاهما بسقف واحد. وبعد أن جرى الفرز المنهجي ما بين التيارين منتصف العام 1986 داخل رابطة علماء الدين المناضلين، استمرّ اليسار الديني في هيمنته على شئون الحكم، وبقي المحافظون أقلّية.
وبعد العام 1989 تساوت الكفّتان إلى حدّ ما، بعد تغييرات جوهرية في السلطة أعقبت وفاة الإمام الخميني، وصعود المرشد (الحالي) آية الله خامنئي إلى الزعامة وهاشمي رفسنجاني إلى الرئاسة. ومع حلول العام 1993 ومجيء حكومة رفسنجاني الثانية، استُطعِمت التشكيلة الحكومية بعناصر من اليسار الديني مرة أخرى، وبعموم من المحافظين المعتدلين.
ثم ومع مجيء محمد خاتمي واليسار الديني بمُلحقاته الحزبية الأخرى إلى الحكم في العام 1997 أزاحوا وبراديكالية سياسية، أغلب عناصر اليمين المحافظ داخل مؤسسات السلطة التنفيذية، باستثناء بعض الوزارات كالاستخبارات التي يتدخّل في تسمية وزيرها عادة المرشد الأعلى للثورة. بل إن الإزاحة طالت أكثر من 5000 ما بين وزراء ومديري إدارات ومهندسين ومسئولين تنفيذين آخرين.
استمرّ وجودهم (أي الإصلاحيين) في السلطة (بلديا) حتى العام 2003، و(برلمانيا) حتى العام 2004 و(تنفيذيا) حتى العام 2005. ورغم أنهم تجرّعوا ثلاث هزائم متلاحقة إلاّ أنهم تحيّنوا فرصة الرفض المُمنهج، وهي التي جاءت مع خلاف المحافظين مع ذواتهم، وتفرّقهم شِيَعا بسبب خلافهم مع أحد منتسبيهم وهو أحمدي نجاد، لإبداء معارضة تليق بهزائمهم الثلاث.
ما يظهَر من هذه الجوقة، أنها استشربت جعّة الحُكم، وأبديّة التموضع في السلطة إلى الحدّ الذي تداخلت فيه شبكة مصالحها السياسية والخاصة معا، وأصبح الخروج منها خروجا من منظومة المصالح بقضها وقضيضها، وفقدان لامتيازات استحصلت عليها طيلة تلك الفترة، وفق منهج شرّعت له ما يكفي من الممارسة على الأرض.
ورغم التنظير السياسي للإصلاحيين في إصداراتهم حول السلطة والحريات الشخصية ومجموعة المراجعات التي أقاموها على أدبياتهم الثورية، إلاّ أنهم لم يستوعبوا بعد قيمة السلطة المتأتّية من الانتخابات، التي تُعتبر بمفاهيم حديثة إعادة إنتاج للعنف البشري ونزعاته، وضبط للجموح الأكثري وتخيّلاته، وتحصين للضمور الأقلّي وهواجسه إلى نظام مدني راشد.
وهم (أي الإصلاحيين) إلى الآن غير مستوعبين للفرز الانتخابي الجديد الذي أبعدهم عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وأتى بالمحافظين إلى الحكم، بل وأتى بأجزاء منهم دون سواهم في بعض المواقع، وأعني بذلك تيار روّاد الإعمار والبناء بقيادة أحمدي نجاد، ومهدي جمران وبرويز داوودي.
الأكثر من كلّ ذلك، أن هذا الخروج من السلطة واكبه سلوك سياسي مشحون دَرَجُوا على انتهاجه. فقالوا ما لا يجب قوله في السياسة باعتبارهم قادة مجتمع. وأظهروا من العِداء للحكم القائم (وبالتحديد للحكومتين التاسعة والعاشرة) ما لم يُظهِره إلاّ موتور في قتيل. وقالوا فيه من المُنكر ما لم يقله أحدٌ إلاّ في نَجَس. وأسالوا ضده من الحبر فقط لإثبات إخفاقه وفشله.
إنني أتساءل عن شعار الإخفاقات (وبكل موضوعية): لماذا لم يُضاعِف الإصلاحيون عندما كانوا في السلطة لمدة ثمانية أعوام نظام الخصخصة عشرين ضعفا كما جرى الآن، حيث السلطة في عُهدة المحافظين؟ ولماذا لم يرفعوا أسهم الشركات المُخصخصة 20 بالمئة؟ ولماذا لم يُزيدوا القروض من الاحتياطي البنكي بنسبة 5.4 بالمئة؟ والاستثمار بنسبة 5.86 بالمئة؟ ويزيدوا من فرص العمل بنسبة 85 بالمئة في بحر عامين؟
نتساءل أيضا: لماذا لم يزيدوا من تصدير المنتجات البترولية بنسبة 8.15 بالمئة؟ ولماذا لم يُشكّلوا المجلس التنفيذي الأعلى؟ وهيئة التفويض؟ وهيئة التحكيم؟ وهيئة اختصار الإجراءات؟ وهيئة التحقيق في الشكاوى؟ والتعاونيات المحليّة؟ واستثمارات أسهم العدالة؟ وهيئة تنفيذ الواجبات القانونية؟ وهيئة التأمينات الإنتاجية؟ وإصلاح قوانين الاستثمار الأجنبي؟ (راجع ما كتبه محمد السعيد عبدالمؤمن فيما خصّ الحكومتين التاسعة والعاشرة).
هذه ليست تُرَّهات. هذه حقائق. والتيار الإصلاحي في إيران يُدركها جيدا. وقد سَمِع الإصلاحيون من ناخبيهم ما جعلهم يُحجمون عن الذهاب إلى مناطق دوائرهم الانتخابية نهاية المجلس السادس، وحتى بالنسبة للمسئولين التنفيذين، وعلى رأسهم محمد خاتمي، الذي سمِع ما يشبه ذلك في الحواضر الجامعية، سواء في طهران أو في الأقاليم الأخرى.
يقول الإصلاحيون إنهم استمزجوا الناخب الإيراني بداية عقد التسعينيات، ووقفوا على طموحاته ونظرته للسياسة والسياسيين، فأجروا تغييرات بنيوية على خطابهم السياسي بناء على ذلك الاستمزاج، فاستحصلوا (كسبا في الشطرنج) على رئاسة الجمهورية في انتخابات 1997 وبلدية في العام 1999 ونيابية في العام 2000 وتنفيذية مرة أخرى في العام 2001.
وإذا كان الإصلاحيون اليوم حريصون على نيل الحُكم من جديد وكسر احتكاره من المحافظين، فعليهم أن يقيموا ذات الاستمزاج، ويُمسكوا بمؤشّر بوصلة المواطن الإيراني لكي يُشذّبوا من مسلكهم السياسي تجاه الأوضاع القائمة والملفات المُعلّقة، ويُحسّنوا من خطابهم للناس لكي يكسبوا أيّ انتخابات قادمة، بدل التهريج في مواقع موجكامب وقلم نيوز.
وربما تُنتج الأحداث الجارية اليوم في إيران مزيدا من التقشير على جلد الإصلاحيين، وتذويب هامات زحف الشيب على صدغها وفروة رأسها، وآن لها أن تستريح، إن بفعل البله السياسي، أو بمعول الزمن، الذي يقضم من العقل كما يقضم من البدن.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2733 - الأحد 28 فبراير 2010م الموافق 14 ربيع الاول 1431هـ
الجديد من اليسار
مقال جميل... أخي العزيز لو تكتبون مقالا يقارن فيه الجديد في اليسار الايراني مقارنة باليمين. بذلك أعني أن وجوه اليسار الايراني هي نفسها لا تتغير. مثلا في انتخابات العام الماضي، لم يطرح الاصلاحيون اشخاص جدد. ففي بداية اللبعة الأول كان السيد خاتمي مطروحا وبعدها دخل السيد موسوي مضمار اللعبة. والشيخ كروبي فشل في انتخابات ماضية... فما الفرق.
اما اليمين الايراني لديه قابلية لانتاج قيادات ذات كفاءة سياسية وايمانية جديدة مؤمنة بالجمهورية الاسلامية باستمرار. هذا موضوع مهم ويا ليت تتناوله.
بصراحة: مقال رائع!
في الحقيقة بدأت أعشق مقالات أخ محمد عبدالله حيث أنها تتسم بالواقعية وتزج بالحقائق دون الخوض في الترهات والاعتماد على مصادر غير حيادية بطريقة مضحكة مبكية كما يفعل البعض. يمكننا الآن أن نتبين حقيقة ما يجري في إيران بكل وضوح.
حقبة التسعينات
عندما أتذكر فترة التسعينات عندما كان خاتمي رئيسا اتذكر معه حجم المشاكل التي عانتها ايران في الداخل من صراعات وتسقيط . شخصيا لا اتمنى ان يعود خاتمي الى السلطة
تعليقي
كلمة واحد فقط: الاصلاحيون ليسوا امناء على ايران