أدى طرح مشروع خفض سن الاقتراع من 21 إلى 18 عاما على مجلس النواب اللبناني إلى إعادة فرز الاستقطابات الطائفية وخلط أوراق «8 آذار» بأوراق «14 آذار». فالمناسبة ساهمت في تشكيل خريطة مذهبية من التحالفات، وجددت إشكالية الاختيار بين المحافظة على نظام المحاصصة لضمان استمرار فلسفة التعايش والتساكن في الكيان. وبين الديمقراطية التي لا تأبه لطبيعة المتغيرات الديموغرافية والتوازن السكاني.
الاختيار بين الوظيفتين فرض شروطه الطائفية والمذهبية على الكتل النيابية. غالبية النواب الشيعة أيدت المشروع. غالبية النواب المسيحيين عارضت المشروع. وغالبية النواب السنة والدروز امتنعت عن التصويت.
التوزع ليس بالضرورة يعكس ذاك التنوع في الإرادات السياسية بقدر ما يؤشر إلى وجود رؤى تتخوف من نمو تحولات سكانية تكسر التوازن الطائفي وتؤدي لاحقا إلى تجاوز نظام المحاصصة وتكوين سلطة أكثرية تحكم أقلية.
المخاوف من حصول هذا الاحتمال دفع نواب الكتائب والقوات اللبنانية وتيار الجنرال ميشال عون إلى الوقوف جنبا إلى جنب والتصويت ضد مشروع خفض سن الاقتراع لأنه يعطي فئة لبنانية أفضلية طائفية (مذهبية) في الانتخابات البلدية أو البرلمانية.
تلك المخاوف رفضت كتلة نبيه بري القبول بها وأيدته كتلة نواب حزب الله في موقفه وأعلنت دعمها للمشروع. وعلى خط موازٍ اتخذت كتلة «لبنان أولا» السنية موقف الحياد بين التأييد والاعتراض فاتجهت نحو الامتناع عن التصويت بذريعة الحرص على الصيغة اللبنانية (نظام المحاصصة لضمان التعايش والتنوع). أما موقف كتلة وليد جنبلاط المختلطة توزع على الفئات الثلاث بين مؤيد ومقاطع ورافض ما يؤشر إلى وجود أزمة بنيوية تعزز الضياع وتربك الوضوح في الاختيار.
هذه الصورة التي ارتسمت خطوطها وألوانها في مقاعد البرلمان اللبناني تؤكد مجددا على نمو حال من الانشطار العمودي يسيطر على الإرادات السياسية ويعيد توظيفها في قنوات طائفية ومذهبية محكومة بأزمة التعارض بين الديموغرافية والديمقراطية. فهذه الأزمة التي يعاد إنتاجها دوريا لا يمكن استثمارها سياسيا لتطوير هيكل النظام وإنقاذ الدولة من التفكك الفيديرالي والتجاذبات المناطقية والطائفية والمذهبية. الدولة من جانبها لا تستطيع أن تتقدم وتتطور وتأخذ المبادرة إذا استمرت المحاصصة تلعب دورها في تكبيل آليات إنتاج النخبة السياسية (النواب). والصيغة من جانبها لا تستطيع أن تستمر إذا أعيد النظر بنظام المحاصصة واعتمد مشروع الأكثرية والأقلية قاعدة للاختيار السياسي.
بين هذه وتلك تصبح الدولة هي الضحية، لأنه لا يمكن لها أن تنهض وتقوى وتدافع ما دامت محكومة بنظام يعطل عليها السير باتجاه التقدم والارتفاع فوق الطوائف والمذاهب للامساك بالسلطة في كل جوانبها ووظائفها.
هذه الأزمة المتوالدة منذ عقود يرجح أن تستمر لأن الأقلية المفترضة نظريا لا تثق بمشروعية ديمقراطية الأكثرية المفترضة عمليا. والأكثرية التي تطالب بتطوير النظام وتعديله من المحاصصة إلى العدد (الصوت الواحد للمواطن الواحد) لم تظهر ميدانيا عن ثقافة ديمقراطية تحترم قواعد اللعبة (الموالاة والمعارضة) وتداول السلطة. ومخاوف الأقلية تنطلق من قناعة ضمنية ترى أن الهدف من وراء كسر نظام المحاصصة ليس تطوير الديمقراطية وتقوية الدولة بقدر ما يطمح نحو السيطرة على السلطة ومصادرة الكيان وتحويل المعارضة إلى أعداء للجمهورية وغيرها من اتهامات ايديلوجية.
هناك شك، والشك بالنوايا يرفع عادة من حدة التجاذبات ويحافظ على نمو استقطابات تعتمد على الطائفة أو المذهب أو المنطقة بصفتها ملاذات آمنة تضمن الحقوق الخاصة مهما كان العدد وتلك النسبة في مجمل التعداد السكاني والمجموع العام للتوزع الديموغرافي.
المشكلة اللبنانية وبناء على هذا التوصيف ستبقى موجودة وربما تكون مستعصية على الحل إذا تواصل منطق التعارض بين الديمقراطية والديموغرافية يأخذ مداه الزمني لمنع الدولة من الانتقال من عصر الطوائف إلى عصر المواطن.
التصويت على مشروع خفض سن الاقتراع كشف فعلا عن انشطار عمودي يعيش أزمته الكيان اللبناني منذ إعلان دولته في العام 1920. فهذا الكيان بدأ مسيحيا قبل 90 سنة وتحول مع الزمن إلى تكتلات ديموغرافية تحتل فيها الطوائف المسلمة الموقع الأول في التوازن السكاني العددي. والمتغير المذكور أخذ يفرض شروطه الميدانية على أرض الواقع ما يفسر استمرار الأزمات وتكرارها وعدم قدرة الدولة على تطوير أدوات السيطرة على السلاح والسلطة.
الخيارات فعلا صعبة وهي في النهاية محكومة بظروف المكان والزمان والمحيط الجغرافي والبيئات الثقافية التي أخذت تنمو وتمتد في الجوار الإقليمي... حاملة معها الكثير من المؤشرات المضادة في تكوينها الاجتماعي للحرية والتعايش وحق الإنسان في الاختيار السياسي. المشهد الذي يتمظهر يوميا على الفضائيات من فلسطين إلى العراق لا يشجع كثيرا التكتلات المسيحية في لبنان على تقبل فكرة الانتقال من المحاصصة إلى الأكثرية العددية. فالمشهد مرعب في نتائجه ودلالاته وهو يعطي المبرر للامتناع وربما الخوف من انتشار ذلك «النموذج» الذي لا يبشر بالخير.
النظام اللبناني على كل سلبياته وثغراته وعثراته يبقى أفضل بمساحات ومسافات لا تقدر من تلك النماذج الجاهزة للتصدير إليه من الأقاليم المجاورة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2731 - الجمعة 26 فبراير 2010م الموافق 12 ربيع الاول 1431هـ
عبد علي عباس البصري
بطبيعه الحال وفي جميع انحاء العالم نرى التكتل الطائفي والديموغرافي محكوم بالمحيط الجغرافي ولهذا السبب نرى الانحياز او التمحور يكون طائفي او ديموغرافي او جغرافي وهذا الشيئ طبيعي كل من يجر النار لخبزه بس لبنان تعتبر الدوله الوحيده العربيه ديموقراطيه حره ابيه . فلربما المشاكل التي تواجهها بسبب اقتصادي او غيره بس انته لا تحط كل ثيابك على معلقه واحده تنكسر.