لم يكن من السهولة بمكان على الإطلاق أن تقنع المعارضة جماهيرها وقواعدها الواسعة بالتفاعل مع المشروع السياسي الوليد الذي لم تتضح معالمه بعد، وخصوصا أن غبار 25 عاما من «القبضة الأمنية» كانت مهيمنة على الوجدان الشعبي.
لم يكن سهلا أن« تدوس» الجماهير على جراحاتها لتعلن يدا ممدودة، والجرح لما يندمل.
هالة من الحذر والدهشة كانت المسيطرة على كل شيء، لكن الشارع - كما هي السلطة- كانا يحملان معا حلما بالخروج من مستنقع الماضي «رغبة الخروج من عنق الزجاجة» على حد تعبير كبار المسئولين في الدولة.
لم تصدق فصائل من المعارضة، وخصوصا المقيمة منها في الخارج أن ثمة تغييرا حقيقيا قد وقع في البحرين. وكل الإشارات المقبلة من عاصمة الضباب «لندن» حيث الثقل الرئيسي آنذاك للمعارضة تبدي توجسا وشكوكا بشأن حقيقة التغيير أولا ومن ثم نواياه ثانيا ولاحقا حجمه المطلوب.
إلا أن المعارضة ذاتها لم تخف تفاجؤها من توالي المبادرات التي أطلقها سمو أمير البلاد (جلالة الملك) حمد بن عيسى آل خليفة، فوقع المبادرات كان سريعا جدا، إلى درجة أن العهد الجديد خطب ود الجماهير حتى تلك التي تضررت على نحو مباشر من حوادث التسعينيات الدامية.
مبادرة تلو مبادرة، وانفراج يعقبه انفراج، ومكرمة تسبقها مكرمة أخرى، فالسجون قد بيضت من المعتقلين السياسيين، والمبعدون في المنفى قد سمح لهم بالعودة لأول مرة، ورموز المعارضة تخرج من قضبان السجون لتعتلي المنابر وسط تجمعات جماهيرية قل نظيرها في تاريخ البحرين الحديث.
الالتفاف الشعبي بشأن الإرادة الجديدة كان كبيرا، ولعل خطاب العاطفة كان طاغيا على أية فرصة للتفكير كما يرى بعض المراقبين، بالنسبة للمعارضة في الداخل لم يعد يمكن أن تقف لتغرد خارج السرب العام، وليس أمامها ثمة متسع من وقت حتى تفكر رويا في التعامل مع المشروع الجديد في البحرين.
وينص مشروع الميثاق الوطني على تحويل دولة البحرين إلى مملكة دستورية وعودة الحياة البرلمانية المتوقفة منذ العام 1975، حينما حل البرلمان بعد سنتين من تشكيله. ويقضي المشروع أيضا بتوزيع الصلاحيات التشريعية بين برلمان منتخب ومجلس للشورى معين وفصل السلطات وحق الشعب في المشاركة في الشئون العامة.
وشكل مخاض صنع الميثاق والتصويت عليه محطة كبيرة وذات دلالات كبيرة في تاريخ البحرين، وعلى رغم كل الريبة المصحوبة بالحذر فإن شمس 14فبراير/ شباط قد كتبت عنوانا جديدا للبحرين.
لم يستغرب أحد أن تكون نتيجة التصويت على الميثاق بنسبة ساحقة (98.4 في المئة)، لأن الشعب كان يسارع الخطى من أجل أن يبصر شيئا من الأمل بعد نفق طويل مظلم أرهق البلاد طوال عقود من الزمن، ولكن كيف استطاعت المعارضة البحرينية أن تقنع جماهيرها الغفيرة بأن تصوت بـ «نعم كبيرة للميثاق»؟
ثمة خطوات كبيرة قامت بها المعارضة في الداخل في سبيل تحشيد الشارع في خيار التأييد الساحق للمشروع السياسي المقبل، على رغم أن المعارضين لم يخفوا ملاحظاتهم الكبيرة بشأن نقاط عديدة أثيرت على ديباجة ميثاق العمل الوطني الذي كتبته لجنة وطنية واسعة النطاق.
وقال معارضون بحرينيون في الخارج في تصريحات بثتها وكالات في 9 فبراير 2001 إن سمو أمير البلاد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة طمأنهم بشأن الصلاحيات التشريعية للبرلمان المقبل.
وقد لعبت المعارضة دورا بالغا في جمع القوم خلف مشروع التغيير الذي يقوده سمو الأمير، وكانت الرموز الدينية في صدارة الداعمين لمشروع الميثاق بعد حصولهم على تطمينات من أعلى المستويات بددت شيئا من مآخذهم على الميثاق.
وفي غضون ذلك أعرب زعيم المعارضة آنذاك المرحوم الشيخ عبد الأمير الجمري عن دعمه لمشروع الميثاق الوطني، وقال الشيخ الجمري في أول خطبة جمعة يلقيها في الناس بعد إنهاء الاعتقال المنزلي عنه في يناير 2001: «تستعد البحرين في هذه الأيام للدخول في مرحلة تمثل منعطفا خطيرا في تاريخها السياسي، وتدشن بها مسيرة هذا القرن؛ فميثاق العمل الوطني الذي سيجرى الاستفتاء الشعبي عليه قريبا يمثل وثيقة عهد وورقة عمل لتفعيل الدستور».
ودعا الجمري المواطنين إلى مساندة الاستفتاء و«الانخراط الجاد في مسيرة البناء والتنمية وتحقيق الوحدة الوطنية الشاملة، وتعميق روح الأسرة الواحدة التي لا تعرف التمييز بين أفرادها، على أساس الفوارق العرقية أو الانتماءات المذهبية والفكرية، والتي تواجه قدرا مشتركا في آمالها وتطلعاتها نحو غد مشرق».
وأكد الجمري أنه «سيكون لتطبيق التعديل الدستوري بصدق وأمانة وشمولية انعكاسات إيجابية في المحافظة على ما تم تحقيقه من إنجازات ومكتسبات وطنية، وفي فتح آفاق واعدة لمستقبل زاهر لمسيرة التنمية في البحرين على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي».
وبدا واضحا أن فارقا في المواقف قد ظهر للعيان بشأن التصويت على مشروع الميثاق بين قيادات المعارضة الخارجة من السجن، والمعارضة المقيمة في الخارج وخصوصا في العاصمة البريطانية (لندن) بشأن حسم الموقف من الميثاق.
المعارضة في الداخل رأت ضرورة التجاوب مع الحراك السياسي والاجتماعي الكبير، وأعلنت أن مشروع الميثاق الذي سيتم التصويت عليه اليوم هو بداية مرحلة جديدة لمعالجة تراكمات مرت على البحرين خلال الـ25 سنة الماضية بهدوء لضمان وحدة البلاد سياسيا واجتماعيا وجغرافيا.
ورأت المعارضة أن ميثاق العمل الوطني هو بداية ستوضح من خلالها العلاقة بين سمو أمير البحرين (جلالة الملك) حمد بن عيسى آل خليفة والشعب، وبالتالي الرجوع إلى الدستور وإلى المجلس المنتخب للانطلاق نحو تفعيل الحياة السياسية والمواد الدستورية والحياة الاقتصادية والاجتماعية».
لقد كانت الخطابات الملكية العفوية في التلاحم مع الشعب محل إشادة في الداخل والخارج على حد سواء. ومن أبرزها كلمة سمو الأمير في ديباجة مشروع الميثاق التي حدد فيها الغاية من الميثاق بقوله «إننا نريده ميثاقا للوطن ووثيقة للعهد وركيزة لعقد اجتماعي جديد في مسيرتنا الوطنية يرسخ ويوثق أصالة البحرين وتميزها وتراثها الحضاري، ويؤكد وحدة الوطن أرضا وشعبا كما يمثل في الوقت ذاته دليل عمل لمستقبله يحدد معالم الطريق ويستكمل مؤسسات الدولة ونظمها ويرسم آفاق الغد الأفضل للبحرين الجديدة التي نريدها أبهى وأجمل لنا ولأجيالنا المقبلة».
كانت الاحتفالات الشعبية منتشرة في كل مكان، تعانقت الآلام بالآمال، كل عقارب الساعة كانت تشير إلى ربيع جميل، وفصل من فصول العقد الاجتماعي والتلاحم بين القائد وشعبه، وقد تجلى ذلك في محطات مهمة ومنها الزيارة التاريخية التي قام بها سمو أمير البلاد إلى عدد من المناطق، وخصوصا زيارة جزيرة سترة، حيث رفع أهالي سترة سيارة جلالته فوق الأكتاف، مرددين شعارات الترحيب والتصفيق، وكان ذلك الحدث مثار حيرة لكل المراقبين الذين تفاجأوا من حجم العفوية في التعاطي مع المرحلة الجديدة.
ومن جانبه دعا ولي العهد سمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة البحرينيين للتصويت بـ«نعم» لميثاق العمل الوطني الذي وصفه بأنه «اتفاق اجتماعي للبحرين يجعلها عضوا فاعلا في المجتمع الدولي»، مشيرا إلى أنه سيخلق للبحرين رفاهية، حرية وعدلا بغض النظر عن الجنس والدين والعرق. واعتبر سمو الشيخ سلمان في مؤتمر صحافي شهير عقده بدار الحكومة في مطلع 2001 أن «الميثاق الوطني الذي وصفه بأنه منبثق من الدستور وليس بديلا عنه، «يشكل نقلة نوعية في المجتمع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويفصل السلطات ويحدد أدوارها ويحفظ الحقوق».
وبخصوص موقف الحكومة من المعارضة، قال الشيخ سلمان «لا بد من أن تكون هناك اختلافات في الرأي، والمعارضة سيكون لها الحق في التعبير عن نفسها في إطار مقبول وقانوني». وذكر أن الميثاق الوطني هو وثيقة تحدد الإطار العام، مبينا أنه إذا كانت هناك وثيقة فاعلة، فإنها ترتبط أساسا بممارسة الشعب لمفاهيم السياسة. وأضاف «سيكون هذا في ظل نظام سياسي أساسه الحرية والعدل والعدالة، وسينبع من الميثاق الوطني».
وفي معرض رده على سؤال بشأن مدى شكوك المعارضة حيال الميثاق الوطني، قال «إن مسألة التشكيك، تظل دوما مسألة نيات، وافتقار في حجم الاعتقاد بأن تلك النيات حقيقية».
لقد برز سجال كبير في الشارع، ودارت رحاه في قيادات المعارضة أولا: هل نوقع على الميثاق أم لا؟ وهل نوقع بضمانات، وما هي الضمانات، غير أن الواقع على الأرض كان أسرع من ذلك.
لقد صوتت المعارضة في البحرين لصالح الإصلاحات الديمقراطية التي شرع فيها سمو أمير البلاد (جلالة الملك) حمد بن عيسى آل خليفة، في اليوم الثاني والأخير للاستفتاء على الميثاق الوطني الذي تميز بمشاركة كثيفة.
ولم يستبعد وزير الإعلام السابق محمد إبراهيم المطوع أن يكون التصويت مع الميثاق بنسبة 100 في المئة أثناء الاستفتاء، وخصوصا أن اليوم الأول من الاستفتاء شهد مشاركة قوية بين نحو 217 ألف شخص بين رجال ونساء ممن بلغوا سن الحادية والعشرين مسجلين على اللوائح الانتخابية.
وقال دبلوماسي غربي مقيم في البحرين «إنها المرة الأولى خلال السنوات الأخيرة التي تسنح فيها الفرصة للشعب البحريني للتعبير عن نفسه في استفتاء وقلب صفحة من التاريخ».
ولم يمض عام واحد على التصويت الشعبي على الميثاق حتى أعلنت الدولة أن مشروع التعديلات الدستورية قد جهز بانتظار عرضه على سمو الأمير إيذانا بعودة الحياة البرلمانية لأول مرة منذ 27 عاماَ، وهو ما تم فعلا عندما أعلن سمو الأمير عن تحويل البحرين إلى مملكة دستورية في 14 فبراير 2002.
أصبح الحراك الشعبي في هذه الفترة كبيرا ومميزا، والندوات الجماهيرية كان لها مذاق خاص على رغم تباين وجهات النظر بشأن صلاحيات المجلس النيابي المنتخب، وبشأن الاختلاف على ماهية التفويض الذي قدمه الميثاق في تعديل الدستور.
فقد سادت البحرين حالة من الانفتاح إذ انهمك الشعب في تحليلات الوضع وشاعت بين الأوساط توقعات بشأن المستقبل من خلال قراءة الخطاب الملكي وكلمة رئيس لجنة تعديل بعض أحكام الدستور وزير العدل والشئون الإسلامية الشيخ خالد بن عبد الله آل خليفة.
وكانت باكورة الندوات الجماهيرية بعد إعلان التعديلات الدستورية في 14 فبراير 2002 ندوة النادي الأهلي الشهيرة التي جمعت عددا من الرموز الشعبية، واحتشد أكثر من خمسة آلاف مواطن بحريني في النادي الأهلي وجلس معظمهم خارج القاعة لعدم اتساع المكان.
وطالب رئيس جمعية الوفاق الوطني الإسلامية الشيخ علي سلمان والنشطاء عبد الوهاب حسين ومنصور الجمري ورئيس جمعية الإصلاح الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة المعارضة وسط تصفيق حاد وهتافات دينية ووطنية بالتعبير عن ملاحظاتهم على ما ورد في الخطاب الملكي وما أعلن من إجراءات لتعديل الدستور.
وبحسب بعض الحضور فقد اضطر عدد من المتحدثين في التجمع إلى تعديل مواقفهم والبروز بصورة أكثر تشددا بشأن آلية عمل مجلسي الشورى والنواب والتعديلات اتساقا مع حالة المتجمهرين الذين ملأوا الصالة تصفيقا وصراخا وهتافات.
وتدخل الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة لتهدئة الحشود وقال «حضرنا اليوم حتى نرش عليكم ماء باردا وأنتم ملتهبون... أقول لكم لن يحدث شيء سلبي». وأضاف :«إنه في حال اتضاح الصورة فإنه ستكون لنا خطوات مدروسة والشعب لا يحتاج إلى حماس أو تشجيع وسيصل إلى مبتغاه بالحكمة والحوار، نحن أقوياء وسنقنع قومنا بما هو صالح».
وقال رئيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي عبد الرحمن النعيمي «إن هناك وجهة نظر أخرى في كيفية سير الأمور، نحن ضد أشكال العنف وما يؤلب قوى على قوى في المجتمع». وأضاف قائلا: «سلاحنا هو الوحدة الوطنية ويجب ألا تعاد أخطاء الماضي في قيام أي طرف وطني بالتصرف بانفراد خلاف الأطراف الأخرى».
ولم يحل الاختلاف تجاه مقاييس المشروع السياسي دون اتفاق الجميع بأن «ميثاق العمل الوطني» قد شكل فعلا جسرا مناسبا ومهما للعبور من الماضي باتجاه واقع سياسي جديد له معالمه الأخرى المختلفة عن المحطات التي سبقته
العدد 2353 - الجمعة 13 فبراير 2009م الموافق 17 صفر 1430هـ