استضاف مركز كانو الثقافي الباحث المغربي محمد جودات، ليقدم محاضرة بعنوان «التناص قراءة مركزية للنص في الشعرية العربية الحديثة» وذلك في مقر المركز، بحضور مجموعة من المهتمين والباحثين والنقاد وجمهور الثقافة في البحرين.
في البداية أشار جودات إلى أن مداخلته هذه مقاربة تفكيكية لماهية الشعرية، انطلاقا من بنيتها وهويتها التي ستخول له فهم تعالقاتها ضمن زاوية نظرية تناصية، تأخذ بعين الاعتبار النص وامتداداته موضوعيا، انطلاقا من عوامل داخلية محددة داخل النص هي التناص، وذلك عبر ثلاثة معابر أساسية: المعبر الأول قراءة لجغرافية النص الشعري الحديث. والمعبر الثاني من النص إلى التناص. والمعبر الثالث التناص قراءة جوهرية للنص.
وفي ما أسماه جودات بالمعبر الثاني من النص إلى التناص اتكأ جودات على تعريف جوليا كرستيفا للنص بأنه «تبادل للنصوص، أي أنه تداخل لها. ففي فضاء نص ما تتقاطع وتنعزل كثير من العبارات المأخوذة من نصوص أخرى» وهو أيضا: «جهاز... يعيد توزيع نظام اللغة بربط الحديث التواصلي، الرامي إلى الإخبار، مع مختلف أنماط العبارات السابقة أو الحينية».
وأضاف جودات النص عند رولان بارت: «نسيج من الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة (والتشديد من عندنا)، دون أن يكون ذلك الفعل أصيلا على الإطلاق». هكذا يبدو التداخل النصي/التناص حدا من حدود النص، ومكونا أساسا فيه، وولوجا ضروريا له، لذلك كان تقاطعا بين البنيوية (المؤمنة بالنص ولاشيء غير النص) وبين الدراسات الأخرى التي تعمل على نظام الإحالة أو المرجع باعتباره مؤشرا على ما هو خارج أدبي/ خارج نصي، ويتحكم في إنتاجية هذه النصوص وتوالدها. هذا التقاطع يزكي بارتياح مشروعية العبور إلى النص وتفكيك ماهيته وعلاقاته مع غيره عبر التناص.
ثم توقف جودات مع فهم التناص عند ميخائيل باختين: الذي حدده بأن اللغة تعدد وتنويعات إنجازية إذ للكلمات إحالاتها المختلفة على وإلى مجموعة حمولات وسياقات. إن اللغة بهذا المعنى تجميع لمحمولات مختلفة أو منسجمة، وكأنها نسيج متعدد، لأن كون الكلمة تحيل؛ فإن ذلك ينفي استقلالية الخطاب كخطاب عن جذوره التناصية وإثبات لتناسليات محتملة يحملها نسيج الخطاب كتفريع منطقي يفرضه تعالق النص مع الخطابات المستثمرة.
إن الخطاب – استنادا على ما سبق وباعتباره مرصصا من مجموعة ملفوظـات لا تنفصل عن دلالاتهـا – «ليس لغة محايدة ولا فردية، لأن المتكلم لا يتعلمها من المعاجم» كما يقول باختين. أما جيرار جنيت فيبدأ في كتابه Palimpsestes «الصحائف» أو التطريز حسب البعض أولا بتحديد مفهوم التعالي النصي transtextualité «التعالي النصي للنص حددته من قبل بطريقة تعسفية بكل ما يجعله في علاقة ظاهرية أو سرية مع نصوص أخرى» وهو تحديد جامع مانع على حد تعبير القدماء.
أهم ما يتوقف عنده جيرار جينيت، مسألة القراءة وإدراك المتلقي في علاقتها بالتناص، وهي مسألة جديرة بالإثارة لكننا نكتفي هنا بنقل الإشارة التي توقف عندها جينيت في كتابه الصحائف؛ لأهميتها في إنتاجية الشعرية العربية الحديثة؛ حيث لا توجد نصية منتمية لهذه الشعرية خارج قراءة وتلقي الشعرية الغربية في تحولاتها النصية كنسق لميكانيزمات كتابية مؤسسة للتحول النصي، بل وموقعتها كنص علوي له سلطة الهجرة إلى النص العربي، وهو ما يفسره أن شعراء الحداثة العربية قراء بارزون للحداثة الشعرية الغربية: من هنا التعالقات النصية التي ستوضحها هذه القراءة للسياب مع إليوت ولأدونيس مع الشعر الفرنسي... .
خلال حديثه عن التناص – ضمن العلاقات التي يحددها جيرار جينيت – يشير إلى التناص من وجهة نظر ريفاتير: «النص التناصي هو التلقي من طرف القارئ للعلاقات بين عمل أدبي وأعمال أدبية أخرى سبقته أو لحقته». هذا البعد الذي يثيره ريفاتير بالغ الأهمية، لأنه لا ينظر إلى النص فقط في تكوينه، وإنما يرتفع بالتناص إلى بعد آخر من أبعاد مقاربة النص، فـ «التناص هو الميكانيزم الخالص للقراءة الأدبية، وهو وحده ينتج الدلالة، بينما القراءة الخطية المشتركة للنصوص الأدبية وغيرها لا تنتج إلا المعنى». فالقراءة بدلالتها هذه تملك سلطة تأويلية يكون النص خارجها غير مكتمل الدلالة. ويمكن أن يستنتج من هذا التصور أن إبداعية القراءة ليست على فراغ تنظيري، وأن القراءة ما دامت هي مفتاح النص فإنها توجهه لأنها وحدها التي تفك رموزه وإحالاته حسب ذاكرة تفرضها هي.
أما دراسة لوران جيني لاستراتيجية «التناص/ من النص إلى النسق»: فتشكل عرضا لمجموعة طروحات تمس التناص كقضية أدبية، حيث تُعقب على طروحات النقد المثالي، وتصور هارولد بلوم، وجينيت وجوليا كرستيفا وتينيانوف، تشير دراسة لوران جيني إلى ظاهرة التناص انطلاقا من إشارة مالارمي التي تنتبه إلى الاشتراك الذي يوحد كل الكتب تقريبا، ومن هذه الانطلاقة تعتبر الدراسة عملية التناص ضمن «شروط إمكان» القراءة الأدبية وإدراك النصوص، فخارج التناص يغدو العمل الأدبي ببساطة غير قابل للإدراك وكأنه مقولة من لغة مازالت مجهولة.
ورأى جودات أن هذه إشارة يجب الوقوف عندها لتوضيح مأزق بارز في النقدية العربية المعاصرة، وهو منزلق الانتقائية في الظواهر النقدية، ففي الوقت الذي تحدد فيه هذه المقاربة - وغيرها كثير - التناص كظاهرة مركزية يكون العمل الأدبي خارجها غير قابل للإدراك؛ تكتفي المقاربات النقدية العربية باعتباره مجرد ظاهرة ضمن مجموعة ظواهر متعددة قد تغطي أهميتها. هكذا تتحدث هذه النقدية عن الغموض والإيقاع والشكل السميولوجي والتناص... باعتبارها دلالات تحول منفصلة في الشعر الحديث، لكن اعتبار التناص ميكانيزمَ إدراكٍ يجعل كل الظواهر منضوية تحته؛ لأنه ظاهرة مركزية. فحضور العروض في القصيدة الحديثة تناص إيقاعي مع النص الأب، وتحول الشكل البصري دلالة تناص مع القصيدة الغربية، ودخول آليات الحكي والمسرح والتاريخ والتحولات الأخرى تناصات أنساقية...
إن القضية أعمق من تحديدات منفصلة وقراءات متقطعة وانتقائية للنقدية الغربية؛ بقدر ما هي تبنٍّ وإدراك لنسق إبداعي.
تصل دراسة لوران جيني إلى قاعدة تناصية؛ مفادها أنه «لا يمكن تحقيق معنى وبنية العمل الأدبي إلا في علاقته مع نماذج سابقة… هذه النماذج المنحدرة عن العديد من الحركات الأدبية والتي توجه/ تقنن أشكال استعمال هذه اللغة الثانية - كما يسميها لوتمان - ألا وهي الأدب».
ينبني النص إذن - وحتى تتحقق شروط إمكان الإدراك لديه - في إطار نسقي مع نصوص غائبة/حاضرة تمارس سلطتها الخفية على النص، وتجعله يمارس عنفه (كما سنرى مع هارولد بلوم) على مستويات، إذ «أمام هذه النماذج، يدخل العمل الأدبي دائما في علاقة تحقق أو تحول أو خرق/مخالفة» إن هذه العلاقة، تضيف الدراسة – هي محددة العمل الأدبي في جزء واسع، رغم أن هذا الأخير/النص يتحدد كأن لا خط يجعله في اشتراك مع الأجناس الموجودة.
يتقدم العمل الأدبي ضمن هذا التصور مركبا لا بسيطا، ومن ثم فإنه يطرح إشكالية إدراكه، لأن «تلقيه يفترض كفاءة في عملية تفكيك اللغة الأدبية» (والتفكيك هنا ليس بمعناه عند دريدا)، وهي عملية تقتضي مرانا في مصاحبة النصوص واستنطاقها.
إن العمل الأدبي ينظر إليه إذن من أبعاد مختلفة تمس تكوينيته وتلقيه وإدراكه، وتشرط بذلك قنوات قراءته بالمران، فالعمل ليس مجردا في قلعة لأنه «خارج الرموز يبدو كقطعة من الحقيقة تعيش داخل الصفحات ولا تقيم أية علاقة إلا مع نفسها». إن التناص بصفته الإلزامية هذه التي يصل إليها تحليل لوران جيني يجعل منه عملية قراءة إجبارية لكل نص، لأنه «إذا كان كل نص يحيل ضمنيا إلى نصوص، فإنه من وجهة نظر تناسبية: العمل الأدبي مرتبط جزئيا بالتناص» لكن وجهة النظر التناسلية (التي فضلنا ترجمتها كذلك حسب السياق، ولأن كلمة «الوراثية» تدل على مقابل آخر في الفرنسية) لا تعني الاستمرار على نهج مفهوم الأصول/المصادر التي يصدر عنها النقد التقليدي كما تسميه الدراسة نفسها، لأن التناص مع لوران جيني مفهوم يعيد النظر في مفهوم الأصول/المصادر (انظر التناص ومفهوم الأصول/المصادر)، والحقيقة أن هناك تصورا يوهم عند جوليا كرستيفا بأنها تؤمن بالأصول، تقول في هذا الصدد «إن الاشتغال على اللغة يحتم بالضرورة صعودا إلى الأصول، حيث يلتقي المعنى بموضوعه». لكنها سرعان ما تعقب لإزاحة الفهم الخاطئ لهذا المعنى فتقول: «بمعنى أن منتج اللغة يكون مضطرا إلى ولادة مستمرة. أو بتعبير أحسن فإنه أمام أبواب الولادة يكشف ما سبقه، من غير أن يكون طفلا هيرقليطيا يلهو بلعبه، فإنه هذا العجوز الذي يعود قبل ولادته لكي يبين للذين يتكلمون أنهم متكلم من خلالهم».
واستند جودات على تصور هارولد بلوم الذي يتأسس على عملية التأثير والقلق – وهو تأويل بسيكولوجي للتصور الأدبي كما تحدده دراسة لوران جيني – فكل شاعر يخضع لقلق التأثير: عقدة أوديب الحقيقية بالنسبة للمبدع التي تدفعه إلى تغيير النماذج – التي يكون حساسا تجاهها – إلى أوجه متعددة: مرة يتعلق الأمر بالنسبة للتابع le suiveur بتمديد Prolonger عمل السابق Précurseur بدفعه إلى النقطة التي كان عليه الوصول إليها en l>infléchissant، ومرة أخرى يتعلق الأمر بخلق الشذرة inventer le fragment التي تمكن من اعتبار العمل السابق كَكُل جَديد. ومرة بدفع النص إلى الطلاق راديكاليا مع «الأب» ليس باعتبار النص الثاني نتيجة عن الأول بل باعتبار الأول مجرد «نقطة أصل»، لكن دراسة لوران جيني لا ترتاح إلى تصور هارولد بلوم، لأنه – حسب جيني – يخلط اعتباطيا النقد الشكلي ونقد المصادر والأصول، ومن ثم فإنه لا يرى في تاريخ الأدب إلا استمرارية لصراع الأجيال. وقراءة في هذا النص فإن هذه التصنيفات التي يقدمها في علاقة النص مع سابقيه تحمل عدة نقاط اشتراك مع مفهوم الحوارية عند باختين ومفاهيم الامتصاص عند جوليا كرستيفا، كما أن هذا التصور له ما يؤازره على مستوى الدراسات العربية المستفيدة من الآخر (بالطبع تعني الاشتراك على مستوى المراحل الثلاث وليس على المستوى التأثري الذي أشرنا إلى رفضه)، وعلى سبيل المثال يقسم محمد بنيس نوعية قراءة شعراء دراسته للنص الغائب إلى ثلاثة معايير:
1 - الاجترار: «حيث تعامل الشعراء مع النص الغائب بوعي سكوني، لا قدرة له على اعتبار النص إبداعا لا نهائيا… أصبح (معها) النص الغائب نموذجا جامدا». وهذا يحيل مباشرة إلى مفهوم التمديد والتقليد سابق الذكر.
2 - الامتصاص: «مرحلة أعلى من قراءة النص الغائب، وهو القانون الذي ينطلق أساسا من الإقرار بأهمية هذا النص، وقداسته، يتعامل وإياه كحركة تحول، لا ينفيان الأصل، بل يساهمان في استمراره كجوهر قابل للتجدد، ومعنى هذا أن الامتصاص لا يجمد النص الغائب ولا ينقده، بأنه يعيد صوغه فقط وفق متطلبات تاريخية لم يكن يعيشها في المرحلة التي كتب فيها، وبذلك يستمر النص غائبا غير ممحو، ويحيا بدل أن يموت».
3 - الحوار: «هو أعلى مرحلة من قراءة النص الغائب، إذ يعتمد النقد المؤسس على أرضية عملية صلبة، تحطم مظاهر الاستلاب، مهما كان نوعه وشكله وحجمه. لا مجال لتقديس كل النصوص الغائبة مع الحوار».
وخلص جودات إلى أنه هناك تداخلا كبيرا بين هذه المستويات ومستويات التمديد وخلق الشذرة والطلاق سابقة الذكر؛ بل مع تصورات هارولد بلوم وجوليا كرستيفا وباختين قبلهم، وقبل الانتقال من فضاء نص محمد بنيس نشير إلى ملاحظة مفادها أنه خلال هذه التعريفات ينظر إلى التناص باعتباره علاقة نص بنصوص أخرى، لكنه عند تحديد النص الغائب نظر إلى علاقة النص بالأنظمة والأنساق الأخرى ولهذا التصور ظلال نقدية مع تينانوف كما. فبنيس لم يكتفِ بعلاقة الشاعر بالذاكرة الشعرية، بل تجاوزها إلى علاقة بالكلام اليومي والأساطير وغيرهما مما يدخل ضمن نموذج غير وارد في التحديد النظري. وهذه نقطة جديرة بالمتابعة إذ تميز علاقتين ضمن العلاقة التناصية عوض الاكتفاء بعلاقة النصوص مع بعضها كما في تحديد جيرار جنيت للتناص.
وأضاف جودات في ورقته بأن التناص مع لوران جيني له محدداته الذاتية التي لا تسمح باعتباره استمرارا لمفهوم الأصول/المصادر، وهو المفهوم الذي تنبني عليه مجموعة من التصورات التقليدية العربية المعاصرة، وتجدر الإشارة هنا إلى تصور كاستون باشلار عن التأثيرات التي تشكل الوجه الخفي لمفهوم المصادر والأصول الذي تتبناه التقليدية عادة لتثبيت الاتصالية، يقول كاستون باشلار: «كلما كنا بعيدين عن الأحداث كلما استحضرنا بسهولة التأثيرات، إن التأثيرات تستحضر بدون انقطاع من أجل الأصول البعيدة ونجعلها تعبر القارات والقرون»، ومن طبيعة الحال فإن التأثيرات التي يتحدث عنها باشلار ليست هي التأثيرات التي ينطلق منها النقد التقليدي، لكنها تشترك معها في مفهوم الثبات والاتصال، ثم إن مجال النقد الفرنسي أيضا مع بارث ينظر إلى هذه القضية من وجهة واضحة لا التباس فيها، توضح مأزق السقوط في مفهوم المؤثرات من منظور تناصي، يقول بارت: «إن التناص الذي يدخل فيه كل نص، لا يمكن أبدا أن يعتبر أصلا للنص: إن البحث عن «أصول» الأثر والمؤثرات التي خضع لها رضوخ لأسطورة السلالة والانحدار. أما الاقتباسات التي يتكون منها النص فهي مجهولة الاسم، ولا يمكن ردها إلى أصولها. ومع ذلك فقد سبقت قراءتها: إنها اقتباسات لا تقدم نفسها كذلك ولا توضع بين أقواس»، فمسألة الأصول خروج من العملية التي يطرحها التناص بعملياته التفكيكية ودخول إلى عالم البحث في المجهول تحت اسم السلالة، لأن البحث عن الأصل بحث عن وهم كما رأينا مع باشلار، ولأن البحث عن الأصل أيضا – حسب لوران جيني – انشغال بالخارج نصي عن النص، ودخول في الدراسة المحايثة l’étude immanente . إن ما تعيبه الدراسة على ما تسميه بالنقد المثالي هو كونه لا يرى إلا تأثيرات ومصادر، فيهتم بخارج النص بالبحث في بيوغرافيا الكاتب، أو يلتجئ إلى علوم أخرى خارج النص. وهو ما يفسر تباطؤ الإحساس بالتناص، ذلك أنه يشتغل بما وراء النص.
العدد 2729 - الأربعاء 24 فبراير 2010م الموافق 10 ربيع الاول 1431هـ