بادرني صديقي ونحن نهم بالخروج من إحدى الندوات الفكرية: لماذا يحتكر الغرب الفلسفة والعلم ونكتفي نحن منذ أزيد من مئة سنة بطرح الأسئلة المكرورة ذاتها: قضايا المرأة، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفصل الدين عن الدولة؟
ومضى صديقي في طرح السؤال: لماذا ندور في الحلقة المفرغة ذاتها ولماذا لم نستطع أن نحول كل الكلام الجميل عن الحرية والتقدم والحداثة إلى حقيقة؟
وفيما يشبه اليقين التام الذي لا يدخله الشك لا من داخله ولا من باطنه استرسل صاحبي بوثوق عقائدي بالغ: إن السبب في ذلك هو ابتعادنا عن تعاليم ديننا الحنيف. كانت المحاضرة التي حركت هذه البركة الآسنة من الأسئلة تدور حول فلسفة ديكارت، وتأثيرها على المنتوج الفلسفي الغربي. سؤال المحاضرة الرئيسي انصب حول إمكانية استعادة روح المنهج الديكارتي بعد كل النقد الذي تعرض له بفعل موضات الحداثة وما بعد الحداثة.
حاولت جاهدا أن أتجاوز الإجابات التبريرية؛ لأني أعرف، على رأي حسن حنفي، أن الفلسفة تموت حين تصبح وظيفتها هي تبرير المعطيات سواء كانت دينية أو سياسية، والدفاع عنها دون أن تقوم بوظيفتها في التحليل والفهم، ثم النقد. وهنا عدت لصديقي قائلا إن أبسط أبجديات الدرس الفلسفي الأول قالت لنا «إن طريقة وضع السؤال أهم من الإجابة عن السؤال». وليس السؤال في الأصل سوى ذلك البحث الدؤوب عن المنهج لأن التاريخ يعلمنا أن العقل يدخل في الظلمة عندما يغيب المنهج، ويتحول إلى معارف موروثة يتراكم بعضها فوق بعض دون طريقة للوصول إليها.
وجدت نفسي، مرغما على الخوض في وظيفة الفلسفة فقلت لصديقي المتحمس لأفكاره إن مواقفه تحكمها بنية ذهنية لم تستطع الانفكاك من تمجيد الماضي والعداء لكل جديد ومتجدد. ولأن قدر العقل عبر التاريخ أن يخضع باستمرار، ثراء أو ضعفا، لوضعية الفلسفة ومكانتها، فإننا يمكن أن نقول إن الفلسفة مرت بظروف صعبة عبر تاريخها بل إنها ماتت مرتين: الأولى في العصر الوسيط الأوروبي عندما تحولت إلى مجرد معارف موسوعية مخزنة في خزائن النخبة. وماتت مرة ثانية في تراثنا القديم، عندما صارت مجرد موسوعات ضخمة يغيب عنها المنهج. الفارق ما بين الحالتين نهوض الفلسفة الأوروبية من سباتها واستنهاضها لهمم العقل منذ ديكارت، واستمرار الفلسفة والعقل العربيين في الاستقالة منذ قرون عديدة.
ضرب صديقي يده كفا بكف وكأنه وجد السر المكنون متهما إياي بالتنقيص من قيمة التراث الفلسفي العربي الإسلامي، أما التهمة الجاهزة فهي «الارتماء في أحضان الغرب». لا يهم كثيرا العودة هذه المرة للحديث عن نظرية المؤامرة وأصولها في الذهنية العربية، لكن ما يهم حقيقة أن الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط سرعان ما عادت إليها روحها المبادرة مع عصر النهضة ورواد الفلسفة الحديثة وخاصة مع روني ديكارت، في حين طال أمد حالة الصقيع في المنهج والرؤية بالنسبة لحالتنا، لأن العقل العربي الذي نجهد أنفسنا في البحث عن علاته صار خاضعا بفعل شروط موضوعية ما، إلى ما سماه محمد عابد الجابري بالعقل المستقيل الذي مازال يخيم بظلاله على كثير من أنماط فكرنا ومسلكياتنا.
لقد افتقد العقل العربي المنهج فافتقد البوصلة التي توجهه نحو مسيرة التقدم الإنساني. فكيف يمكننا تحويل المنهج الديكارتي إلى أداة رئيسية للتغيير؟ وكيف يمكننا، انطلاقا من ذلك، إعادة صياغة النظام المعرفي للمجتمع بشكل يتجاوز المناهج الحالية؟ وكيف بالإمكان تحويل الشك إلى ممارسة نقدية بما ينسجم والرغبة في تأسيس نظام جديد للتفكير؟ هذان هما السؤالان الكبيران اللذان يجب أن تنبني عليهما كل قراءة جديدة للفكر العربي الإسلامي.
وبهذا المعنى أزعم أن العودة إلى روح الكوجيطو الديكارتي لاتزال تتوفر على شرعية عربية قوية. تنبع هذه الشرعية من «أنا أفكر إذن أنا موجود» التي خلص إليها رائد الفلسفة الحديثة روني ديكارت في القرن السادس عشر، لم تتجسد كحقيقة في الواقع العربي رغم كل المحاولات الحثيثة التي قام بها رواد النهضة.
إن روح الفلسفة الديكارتية لاتزال غائبة عن الفكر العربي الإسلامي. إن جوهرها يتمثل في ربط الوجود بالفكر، إذ «متى انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود» يقول ديكارت. لكن غالبا ما نتعاطى مع هذه المقولة الشهيرة بالكوجيطو بنوع من الاختزالية والسطحية تفرغها من دلالاتها المعرفية وعمقها المنهجي، رغم أن المقولة شكلت ثورة إنسانية شاملة بكل المقاييس.
فعلا أسس ديكارت من خلال هذه الخلاصة وغيرها من تأملاته الفلسفية الأسس الصلبة لما ستعرفه الإنسانية من تحولات فكرية وسياسية وثقافية. كلمتان أساسيتان يقوم عليهما الكوجيطو الديكارتي... إنهما الأنا والفكر (العقل)... فتصبح الأنا المفكرة هي الحجر الأساس في هذه المقولة. إن حقيقة الذات المفكرة هي الحقيقة الوحيدة التي لم يستطع الشك أن يتسرب إليها بعد أن شك ديكارت في كل شيء.
صحيح أن الشك الديكارتي شك منهجي، وصحيح أيضا أنه شك قصدي، وصحيح أيضا أن نتيجته معروفة سلفا. لكن رغم الانتقادات الموجهة إليه يبقى لحظة مفصلية في تاريخ الإنسانية ككل والغرب خصوصا. إن أهمية هذه اللحظة نابعة من استتباعاتها، ذلك أنها ستعمد إلى تأسيس الوجود الإنساني انطلاقا من «الأنا المفكرة» في استقلال عن أي تبعية، إذ لم يعد الوجود الإنساني تابعا لا لله ولا للكنيسة ولا لأي سلطة أخرى غير سلطة العقل.
ما يهمني كثيرا، هو تلك القدرة التي استطاع بواسطتها الشك الديكارتي تنحية العقل القروسطي. وبالمقابل ساعد ديكارت العقل الإنساني على الوصول إلى أقصى طاقاته لتقبل العلم واستخراج منطقه العام، فارتفع منسوب العقلنة والتنظيم في كل ما يحيط بالإنسان.
نعم لقد ربط ديكارت الوجود بالفكر واعتبره الشرط الوحيد لإنسانية الإنسان. إنها نقلة نوعية لعدة أسباب. أبرزها أن الشك الذي اعتمده ديكارت كان هدفه الأول القضاء على كل تبعية، والبحث عن استقلالية الإنسان، عن سلطة الكنيسة أولا، وكل ما يتعلق بالميتافيزيقا والكهنوت، والأسطورة... لقد رفع ديكارت من خلال مقولته الشهيرة بالكوجيطو «أنا أفكر إذن أنا موجود» من شأن العقل والمواطن الحر في مقابل القدرة الإلهية ورجالات الدين.
لكن ومع ذلك، لا يجب نسيان ربط أهمية الشك الديكارتي ودوره التاريخيّ بسياق تحوّل مجتمعيّ أوروبي وعالميّ. وبالتالي لا يمكن الانطلاق من فهم سبب التخلف أو التقدم للعقل أو لدولة ما أو لاتجاهات فكرية ما، من بنية العقل فقط، مع أهمية ذلك.
إن الوقوف عند هذه الملاحظة يحفظنا من الانزلاق عند مناقشة العقل العربي الذي لم يستطع حتى الآن التخلص من عباءة الرؤية الدينية، وتحديدا ما أسس له الغزالي. وابن تيمية، وصولا إلى ابن حنبل، وبعدهما بمئات السنين محمد بن عبدالوهاب وانتهاء بفكر القاعدة وطالبان.
في ظل سيطرة هذه النظم المعرفية على عقل العرب في كل العالم العربي والإسلامي، بفعل مساهمتها في تشكيل الواقع الراهن منذ أربعينيات القرن الماضي على أقل تقدير، فإن تفعيل الشك الديكارتي إزاء هذه الحتميات تمرين عقلي شاق وصعب لتجدر المسلمات والبديهيات والأفكار القبلية. هنا نتساءل هل نستطيع كعرب تفعيل هذا الكوجيطو بكل ما نرزح تحته من تراكمات قهرية تعمل على تحويل كل خرافة أو أسطورة إلى حقيقة مقدسة تنتهك كل مجالات الوجود سواء الفردي أم الاجتماعي بكل ما نتمسك به من أوهام نعبدها وندافع عنها وننافح عن شرعنة وجودها واستمراريتها؟ وبمعنى آخر هل نحن مؤهلون لولادة عقلانية جديدة؟ هذا في نظري هو رهاننا أثناء مساءلة الطرح الديكارتي.
عودة إلى العقل المستقيل الذي تحدث عنه محمد عابد الجابري، يمكن أن نسجل ذلك الهوس المنتشر بين مجموعة من أدعياء الثقافة العربية. أقول أدعياء لأنهم يتصيدون فرص الهجوم على كل فكر غربي بغض النظر عن وجاهته أو قيمته. لكن وبفعل الافتقاد إلى الإبداع يعمدون إلى اتباع أحدث الصيحات الانتقادية الصادرة من الغرب نفسه. فبخصوص ديكارت لن نعدم كتابات عربية تصرح جهرا بأن ديكارت تجاوزته النظريات الفلسفية المعاصرة وصار جزءا من الماضي... ولن نعدم أيضا كتابات تستعير كل العتاد النظري الغربي لتثبت تحول العقل الغربي إلى أداة مدمرة للإنسانية... يستشهدون بما أفرزه هذا العقل من تقدم أدى إلى كوارث إنسانية وإلى قيام حربين عالميتين وإلى صناعة القنبلة النووية وتدمير هيروشيما وناكازاكي وغيرها من الحجاج...
ليس هناك اختلاف على هذا التشخيص الإنساني لوضعية عقل يشتغل بمنطقه الخاص، لكن المسخرة تصير من طبيعة متضخمة حينما نتخذ هذه الذرائع لرفض كل ما هو عقلاني وغربي... باعتباره عنوان الفشل... ومن ثمة فإن الرجوع إلى قيمنا الدينية وإلى منهجنا في الاتباع كفيل، حسب هؤلاء الأدعياء، بتخليص الإنسانية من كل «أمراضها»... ليست هذه المنهجية العرجاء سوى دليل آخر على العجز عن الابتكار، وخاصة أن كل الانتقادات التي يتم استجلابها صاغها باستمرار العقل الغربي. إنه عقل قادر في كل مرة على إعادة النظر في نفسه وإعادة النظر في مسلماته. وكانت ولاتزال إحدى نقاط قوته الأساسية محاولة تجاوزه لكل الحتميات التي تأسس عليها. إن الفكر الديكارتي المقدس للعقل والمؤمن بإمكانيات العقل المطلقة لم يلبث أن تعرض لمجموعة من الهزات، بدأت من كانط الذي حصر حدود المعرفة العقلية في المعرفة العلمية وصولا إلى كل موجات الحداثة وما بعد الحداثة التي طالبت بعقل جديد متوائم مع التطورات الإنسانية وآمالها، وفيه يتصالح الإنسان مع الطبيعة، ولا يصير مسخرا لها فقط وإنما جزءا منها، لأنها جزء منه، كما يعلن في غير ما مرة المفكر الفرنسي إدغار موران..
يمكن أن نفهم هذه الانتقادات الغربية للعقل الغربي باعتبارها دينامية داخلية ودليل حيوية، أما أن يتم التعامل معها بانتقائية لاستعمالها كتهمة لمواجهة الآخر والطعن فيه والتنقيص من قيمته بل وإقصائه، فالأمر لا يعدو أن يكون محاولة انتقائية وتلفيقية تثبت العجز عن الإبداع، وتنتظر إنتاجات الآخر الفلسفية والنظرية والتعامل معها بانتقائية للتعويض، مما يثبت بالمنطق النفسي عجزا معرفيا وحضاريا صارخا... وعوض البحث عن السبل الكفيلة بإعادة تشغيل هذا العقل في انسجام مع المعطيات الإنسانية الجديدة والتركيز على روح الإبداع يتم التنحي جانبا والتقوقع بعيدا عن كل القيم الإنسانية... أما السلاح الأمضى في ذلك فهو الاتباع وتلك الذهنية التي لا تؤمن سوى بـ «لا وجود لأفضل مما كان».
* - كاتب مغربي، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2728 - الثلثاء 23 فبراير 2010م الموافق 09 ربيع الاول 1431هـ