اليوم تبدأ الجولة الأولى للمبعوث الأميركي إلى المنطقة. ومهمة جورج ميتشل ليست سهلة ولكنها غير مستحيلة إذا أرادت الإدارة الجديدة اتخاذ القرار التاريخي الشجاع. فالدول العربية لا تطالب باختلاق معجزات وإنما اتباع سياسة عادلة ومتوازنة نصت عليها قرارات مجلس الأمن منذ العام 1967.
المشكلة ليست في الجانب العربي وإنما تتركز في الجانب الإسرائيلي المدعوم أميركيا. فالولايات المتحدة كانت ولاتزال تلعب الدور المعطل وأحيانا كانت إدارتها تبالغ في الانحياز لحكومات تل أبيب لحسابات انتخابية وداخلية. وأحيانا كانت «إسرائيل» تتشجع من التعاطف الأميركي لترفع من سقف عدوانها مستفيدة من ذاك الغطاء لتمرير مشروعها الخاص في توسيع رقعة الاستيطان والامتناع عن الانسحاب من الأراضي المحتلة.
هذه السياسة الأميركية وصلت في عهد جورج بوش إلى حدها الأقصى ولم يعد بإمكان الإدارة الجديدة الاستمرار بها من دون مراجعة لملفاتها وقراءة نقدية لخطواتها. فالحد الأعلى الذي بلغته إدارة بوش تمثل في إضعاف الموقف العربي من خلال تحطيم دوره ونفوذه وتكسير أبنيته ومؤسساته في العراق ولبنان وفلسطين المحتلة. ومثل هذا العداء للهوية العربية والثقافة الإسلامية والمصالح الإقليمية لا تستطيع واشنطن في إطار إدارة باراك حسين أوباما أن تستكملها من دون إعادة نظر بمشروع استخدم التقويض وسيلة وحيدة للدبلوماسية.
استراتيجية التقويض والحروب الدائمة والإفراط في القوة والضربات الاستباقية و«الفوضى البناءة» وغيرها من مفردات أوصلت الولايات المتحدة إلى حال من الانطواء والتراجع والعزلة الدولية... والاستمرار في النهج عينه يعني عمليا تواصل انكشاف المصالح الأميركية من دون نتيجة. الإقلاع عن نهج بوش يشكل خطوة في الاتجاه الصحيح. وفي حال نجح ميتشل الذي يصل اليوم إلى المنطقة في إبلاغ الرسالة الأميركية الجديدة يكون فعلا قد وضع إدارة أوباما في المسار الصحيح... وإلا فإن الأمور ستعاود إلى الاحتقان وثم الانفجار بعد مرور فترة من الزمن.
الخطوة الجيدة في بداية الطريق تعطي نتائج جيدة في نهايته. وإذا استطاع ميتشل تقديم ضمانات للمنطقة تعطي الحقوق لأصحابها يصبح احتمال نجاح أوباما من المهمات المعقولة حتى لو وجدت الإدارة صعوبات في إقناع حكومة تل أبيب بضرورة الالتزام بالقرارات الدولية.
العالم تغير كما قال أوباما في خطاب القسم. كذلك على أميركا أن تتغير أيضا كما ورد في خطابه. كذلك فإن رؤية العرب والعالم الإسلامي للمفاهيم الأميركية ستتغير في حال قررت الإدارة تغيير سياستها في «الشرق الأوسط». العرب لا يكرهون أميركا عن عبث كما حاول تيار «المحافظين الجدد» الترويج لتغطية هجومه على المنطقة. والعرب لا يريدون الدمار المنهجي والمبرمج للولايات المتحدة كما تحاول القوى الكارهة للإسلام والمسلمين أن تسوق ايديولوجيتها العنصرية والمتعالية في مراكز القرار الدولي. كل هذا المخزون من الأكاذيب يجب تجاوزه حتى تتوصل إدارة أوباما إلى تشخيص المشكلات وتحديد مواضعها وترسيم حدودها. وفي حال نجحت الإدارة في تدوير القضايا وضبطها على قاعدة المصالح والاحترام المتبادل كما قال أوباما في خطاب القسم فإن الكثير من الصور المزيفة عن «الكراهية» و«العداء» ستتساقط من دون حاجة لاستخدام العنف واللجوء إلى القوة لتغيير المعادلات والخرائط.
الخطوة الأولى
العالم العربي وامتداده الإسلامي جاهز للتغير وهو في حال استعداد للتعامل الإيجابي مع المبادرة الأميركية إذا تضمنت متغيرات باتجاه العدالة والحقوق التي نصت عليها القرارات الدولية. وغير ذلك يصبح مضيعة للوقت ومجرد دوران في لعبة فارغة لا قيمة لها سوى دفع الأمور نحو الإحباط وترشيح المنطقة لتكون من جديد حقل اختبار لموازين القوى الدولية والإقليمية.
المسألة تكمن في السياسة لا في القوة. والسياسة العادلة تعطي مصادر قوة للولايات المتحدة تتجاوز كل حسابات الصواريخ والقنابل والدبابات. وأميركا التي استخدمت سياسة القوة من دون فائدة يمكن أن تتبع قوة السياسة لتختبر فعلا إذا كانت المنطقة العربية - الإسلامية تكرهها ولا تريدها وتخاصمها عن عبث ومن دون سبب. هناك أسباب للمشكلات والاختلاف والعداء، وهذه الأسباب ليست مختلقة وإنما ظاهرة ميدانيا ويمكن التقاط مؤشراتها في مختلف المحطات والمواقف.
سياسة القوة غير مفيدة ضد العرب والعالم الإسلامي وهي في نهاية المطاف انقلبت على الولايات المتحدة وأضعفتها وزادت من عزلتها دوليا وإقليميا. لذلك فإن المنطق المعطوف على قيادة سياسية ذكية وشابة وواعدة يمكن له أن يشكل خطوة تساهم في تحقيق اختراق تاريخي تبدأ بانعطافة بسيطة تتمثل في الخطوة الأولى.
خطوة ميتشل الأولى لابد أن تكون صحيحة حتى يتجه المسار الأميركي في الطريق الصحيح. وإذا كانت الخطوة خاطئة وسيئة فإن الاتجاه سيذهب نحو الاحتقان والاضطراب والاصطدام. الخطوة الصحيحة ستكون صعبة لأنها الأولى في المسار الأميركي في عهد أوباما ولكنها ستفتح الباب بسرعة للاتجاه نحو عملية التصحيح. والخطوة الخاطئة سهلة ولا تتطلب الكثير من ميتشل سوى تكرار ما كانت تقوله إدارة بوش وهذا يعني أن الفشل سيكون عنوان المرحلة، وبالتالي لا حاجة لميتشل ولا ضرورة لعودته إلى المنطقة في جولة ثانية وثالثة ورابعة كما حصل إبان تولي كوندليزا رايس حقيبة الخارجية الأميركية.
يصل ميتشل اليوم إلى المنطقة حاملا معه قراءة أميركية لابد أن تكون منسجمة مع خطاب القسم الذي أكد أن العالم تغير وأميركا تغيرت. والتغيير الذي ورد كلاميا في خطاب أوباما بحاجة إلى اختبار عيني يؤكد صحة التوجه الأميركي الجديد... و«الشرق الأوسط» في الحال المذكورة يشكل الميدان الحيوي لامتحان النوايا الأميركية من دون أوهام زائفة وتوقعات تبالغ في رهاناتها. فالدول العربية لا تطلب الكثير من واشنطن ومشروعها التسووي لا يتجاوز السقف الدولي. وهذا أضعف الإيمان.
تبقى المشكلة في الجانب الإسرائيلي الذي يمر الآن في حال انتقال من التطرف إلى أقصى التطرف إذا نجح زعيم «الليكود» وحليفه «إسرائيل بيتنا» كما ترجح الاستطلاعات في الانتخابات التي ستعقد في 10 فبراير/ شباط المقبل. ونجاح أقصى التطرف في تشكيل حكومة إسرائيلية ائتلافية جديدة يعتبر ردا على محاولات التغيير التي تقول إدارة واشنطن إنها تريد التعامل معها بانفتاح وإيجابية.
هناك إذا تحديات تواجه مهمة ميتشل. والتحديات الإسرائيلية تتطلب الرد من الجانب الأميركي. والرد لا يحتمل التسويف أو التأجيل لأن التأخير والتردد والتخوف لا يكتفي بتعريض المبادرة العربية للتعديل أو السقوط وإنما يرسل إشارات مضادة لكل تلك الوعود والآمال التي وردت تباعا في خطاب أوباما يوم القسم
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2336 - الثلثاء 27 يناير 2009م الموافق 30 محرم 1430هـ