توقيع الاتفاق الإطاري بين الحكومة السودانية وحركة «العدل والمساواة» في إقليم دارفور برعاية الرئيس التشادي إدريس دبي في نجامينا يشكل خطوة تصالحية مع الداخل والمحيط الجواري. فالأزمة التي انفجرت في دارفور تجاوزت حدودها المحلية وتحولت إلى مشكلة إقليمية أعطت ذريعة للتدخل الخارجي ما أدى لاحقا إلى تدويل الصراع وتحويل ملفه إلى مجلس الأمن والمحكمة الدولية.
التوقيع على الاتفاق يتجه في المبادئ العامة إلى تصحيح مسار كان بإمكان الخرطوم تجنب مطباته لو اتبعت «خريطة طريق» تخفف من سياسة الانزلاق نحو تصادمات أهلية لا فائدة من حسمها في بلد مفتوح جغرافيا على امتدادات قبائلية وأقوامية تتجاوز حدود السودان. التوقيع خطوة جيدة في الاتجاه الصحيح ولكنه جاء متأخرا زمنيا باعتبار أن ملف الأزمة تحول إلى أوراق تتداولها القوى الكبرى في تعاملها اليومي مع نظام الخرطوم. والتأخر الزمني في البحث عن حل يطرح السؤال بشأن مسارعة الحكومة السودانية في الوقت الضائع إلى توقيع خطة عمل ميدانية توقف التدهور العام الذي جرف أزمة الإقليم ودفعها إلى أروقة الأمم المتحدة؟
هناك مبررات كثيرة دفعت حكومة عمر البشير إلى الاستعجال في توقيع الاتفاق الإطاري. أولها حاجة الخرطوم إلى هدنة مؤقتة تسمح لها بالتفرغ إلى مواجهة استحقاقات محتملة قد تظهر مضاعفاتها السياسية بعد الانتهاء من جولة الانتخابات الرئاسية التي حدد موعدها في أبريل/ نيسان المقبل. وثانيها حاجة الخرطوم إلى حليف إقليمي يضبط حدودها الغربية الغنية بالنفط ويعوض لها احتمال خسارتها مواقع نفوذ في أقاليم الجنوب وما تحتويه من ثروات طبيعية ومعدنية ومجاري مياه ترفد النيل بجداول تغذي الأراضي الزراعية التي يعتمد عليها سكان الشمال والشرق لتأمين السلة من منتوجات الفلاحة والرعي.
الجانب الاقتصادي – الاجتماعي يشكل الدافع المباشر الذي شجع حكومة الخرطوم إلى التحرك لإقفال الباب الغربي الذي دخلت منه رياح إقليمية ودولية لا تقل حساسية عن تلك الرياح التي دخلت السودان من محافظات الجنوب. فهذا الجانب المهم أملى على الخرطوم اعتماد سياسة مرنة لتلبية حاجات آنية وبعيدة المدى معطوفة على استحقاقات مؤجلة مرهونة بطبيعة الانتخابات والنتائج التي ستسفر عنها في المستقبل القريب.
الحاجة إلى البديل لتعويض الخسائر المحتملة ترافقت أيضا مع متغيرات إقليمية تمثلت في التقاطع الأميركي – الفرنسي في تثبيت مواقع حكومة إدريس دبي في تشاد ودعمها مؤقتا بعد خلافات بين الطرفين شهدتها المنطقة خلال العقدين الماضيين. والتقاطع الدولي بين أميركا وأوروبا أعطى فرصة لتشاد أن تتحرك إقليميا لضبط حدودها مع السودان من خلال تأمين مظلة أمان قبلية تعطي نجامينا منطقة نفوذ في دائرة غنية بالنفط. وهذه الفرصة تفتح المجال لتشاد بإعادة توظيف ثروتها بالداخل التي يقدر أن تساعد على نمو اقتصادها بوتيرة عالية تتجاوز المعدل الوسطي للقارة الإفريقية من شمالها إلى جنوبها.
هندسة العلاقات الإقليمية بين تشاد والسودان يلبي حاجة الخرطوم ونجامينا في لحظة انتقالية يمر بها القرن الإفريقي وما يشهده من مستجدات على خريطة التحالفات الدولية واحتمال نمو التدخل الخارجي في دائرة استراتيجية أخذت تهدد أمن ناقلات النفط وخطوط التجارة ومداخل البحر الأحمر من جانب جنوب اليمن والصومال. فالهندسة الإقليمية كما يبدو باتت مطلوبة دوليا لتأمين الاستقرار في غرب السودان بالتوافق مع الرئيس التشادي الذي يمتلك أوراق ضغط قبلية في دارفور يستطيع استخدامها باتجاهات متخالفة. وجنوح الرئيس التشادي إلى الهدنة يؤشر إلى وجود قناعات دولية جديدة بدأت تتجه نحو الاستقرار في دارفور للتفرغ إلى ساحات أكثر خطورة في المناطق الساحلية الممتدة إلى باب المندب وصولا إلى شواطئ الصومال المترامية الأطراف.
الاتفاق الإطاري الذي وقع بين الرئيسين السوداني والتشادي يرجح أن يدوم زمنيا وذلك لاعتبارات دولية تتجاوز حدود إقليم دارفور. فالاتفاق مؤشر على وجود خريطة طريق تبحث عن مداخل وممرات لإعادة هندسة العلاقات الجوارية في سياق مفتوح على احتمال هيكلة منظومة التوازن الأهلي في السودان، وهو البلد القاري المقبل على استحقاقات مهمة قد تؤدي إلى تشكيل هيئاته السياسية في تقسيمات لا تنسجم بالضرورة مع صورته الحالية.
إعادة هيكلة السودان خطوة ثانية متوقع حصولها في السنة المقبلة في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية القريبة وما يعقبها من تصويت لاحق على وحدة السودان أو استقلال الجنوب وانفصاله عن الشمال. فالهيكلة الأهلية مرتبطة بالهندسة الإقليمية لأنها ستكون الجواب على سؤال مزدوج، الجانب الأول منه يتعلق بموقع السودان في جغرافية محيطه الإقليمي، والجانب الثاني يتصل بدور القوى السياسية المطلوب منها المشاركة في صوغ خريطة السودان الأهلية وتلك المظلة التي ستشرف على ترتيب منظومة علاقاته الداخلية منها دارفور اليوم وكردفان غدا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2726 - الأحد 21 فبراير 2010م الموافق 07 ربيع الاول 1431هـ