حتى مطلع القرن الخامس عشر (1400م) كانت أوروبا لا تختلف كثيرا عن حضارات شعوب العالم. آنذاك كان البحر الأبيض المتوسط يحتل الموقع الأول في التجارة. وشكلت موانئ مدن البحر المتوسط منارات عمرانية - ثقافية تستقطب السلع وتستوردها من الشرق من طريق الحرير الذي يربط أوروبا بالهند والصين مرورا بالمناطق الإسلامية.
العالم الإسلامي في تلك الفترة كان يحتل الموقع الأول في التوازن الدولي مستفيدا من موقعه الجغرافي الذي يبسط نفوذه السياسي على خطوط التجارة الدولية البحرية والبرية. وبسبب ذلك الموقع الاستراتيجي تشكلت استقطابات سياسية ساهمت في توليد حروب دينية استهدفت السيطرة على المعابر والممرات التجارية وتلك الشبكة من الخطوط التجارية الممتدة من غرب الصين إلى شرق أوروبا.
كان العالم الإسلامي يتحكم حتى القرن الخامس عشر بمختلف المنافذ والبوابات التجارية. وبحكم تلك السيطرة التجارية كانت الممالك والدول الإسلامية تفرض شروطها السياسية في التعاملات الدبلوماسية بسبب قدرة المدن الإسلامية على التدخل ومنع حركة العبور والمواصلات والاتصالات أو فرض الرسوم على قوافل الحرير والتوابل الآتية من آسيا.
استمر هذا الوضع القلق يتوازن سياسيا من دون غلبة دولية. فأوروبا بحاجة إلى العالم الإسلامي لكونه يشكل ذاك الممر الجغرافي الاستراتيجي للدخول والخروج. والعالم الإسلامي كان بحاجة إلى أوروبا لأنه كان يستفيد تجاريا من ضرائب المرور على تلك السلع والبضائع التي تستوردها مدن أوروبا المتوسطية من الهند والصين.
أدى التوازن في مراكز القوى إلى توليد احتكاكات سياسية ودينية وتجارية وثقافية تطورت أحيانا إلى مواجهات عسكرية وهجمات متبادلة للسيطرة على الموانئ تحت عناوين دينية (حماية الأراضي المقدسة) أو باسم حروب الاسترداد التي شجعت الممالك الأوروبية على تجييش الشعوب وتحريكها وتحريضها ضد الإسلام. وساهم التجار الأوروبيون في تمويل الجيوش والحملات بقصد تأمين مواقع نفوذ يمكن استخدامها سياسيا لتحصين قوافل التجارة وحمايتها من الغزوات أو الضرائب العالية.
هذا الوضع الدولي استمر على حاله يتجاذب خطوط التجارة من دون حسم حتى مطلع القرن الخامس عشر. فالتوازن العسكري منع أوروبا من تطوير حملاتها (الحروب الصليبية) فانتهت إلى الفشل والاعتراف مجددا بقوة الإسلام في المشرق العربي وآسيا وافريقيا.
كذلك لم ينجح المسلمون في تطوير اختراقاتهم العسكرية إلى الداخل الأوروبي وغرب القارة، إذ توقفت حملاتهم المضادة على أبواب البندقية في المتوسط وأسوار فيينا في شرق أوروبا. وبدأ الإسلام يتراجع في إسبانيا إلى أن خرج منها نهائيا في 1492.
التوازن الدولي انعكس على طبيعة العمران ونوعية المعرفة. فأوروبا حتى مطلع القرن الخامس عشر لم تكن متقدمة على العالم الإسلامي في المضمارين. والعالم الإسلامي الذي كان يسبق أوروبا معرفيا لم ينجح في توظيف تفوقه المذكور في الميدان العمراني بسبب تكوين سلطاته السياسية التي كانت تحد من إمكانات استثمار المعرفة (العلمية، الفلسفية، والفقهية) في مجال القانون (الدستور) خوفا من تجاوز الفضاءات الدينية. فالإسلام كان ثقافيا يشكل مركز الدولة ونواة الوحدة وقوة الدفع للتطور ما كان يتطلب حماية الشريعة من الأعداء.
بسبب هذا البعد الديني المدني للحضارة العربية - الإسلامية كان من الصعب على السلطات السياسية السماح للمعرفة (العلمية، الفلسفية، الفقهية) بتجاوز حدود “العلة الأولى” أو حتى اختراقها نظريا خوفا من انعكاساتها على المجتمع واحتمال تطورها باتجاه تداعيات سلبية تقوض الأسس التاريخية لتكوين الدولة وتشكيلاتها الأهلية.
أوروبا أيضا كانت حتى مطلع القرن الخامس عشر غير بعيدة عن فضاءات العالم الإسلامي. فالممالك الأوروبية كانت آنذاك تابعة للكنيسة المسيحية والباباوية. وكان الدين يشكل قوة توحيدية تتمثل في مرجعية الفاتيكان التي لعبت دور مظلة سياسية تهيمن على النخب الأوروبية المحاصرة في الأديرة والمعاهد الدينية وتمنعها من التطرق إلى موضوعات مقدسة تزعزع الإيمان بالمقولات العقلانية وتزرع الشك بمصدر “العلة الأولى”.
كانت أوروبا آنذاك متشابهة معرفيا بالعالم الإسلامي ومتقاربة معه في تصوراتها العامة عن الكون والإنسان والحياة والموت. وحاربت الكنيسة في تلك الفترة شرائح من النخبة الأوروبية وحاولت منعها من الاقتراب من الثقافة العربية والاستفادة من تلك الإنجازات العلمية والفلسفية والفقهية التي سجلتها المدن والحواضر الإسلامية خوفا من انجرارها نحو اجتهادات تزعزع قواعد الإيمان بالخالق وتدفع رويدا نحو الشك وبالتالي الخروج على الدين والمقدسات.
النخبة الأوروبية آنذاك كانت تعيش على نتاجات الفيلسوف المسيحي القديس أوغسطين (354 - 430م) وكتابه عن “مدينة الله” وتقتات من ترجمة كتابات الفلاسفة المسلمين وبحوثهم العلمية والفقهية حين نقلتها من العربية إلى اللاتينية. فالنخبة لم تكن قد استقلت بعد نظريا عن فضاء المعارف العربية بل كانت تجد في الفلسفة الإسلامية وموسوعات الطب والفقه والاشتغال على الفكر الإغريقي مصادر كافية للتعلم والتعرف والاطلاع على ما أنتجته البشرية من أفكار ومدارس. وأدى تأثر النخبة الأوروبية بالمعارف الإسلامية إلى تشكيل مراكز قوى تتعامل أو تتعايش مع الفضاءات العلمية والمعرفية التي أخذت تنتقل أو تتسلل من حواضر المسلمين في الأندلس وصقلية إلى المدن الأوروبية من خلال الاتصال التجاري البري والبحري أو التصادم العسكري بين العالمين.
حتى القرن الخامس عشر لم تكن النخبة الأوروبية قد اكتشفت ذاتها واستقلت معرفيا عن الفضاءات الإسلامية. وبسبب هذه الفجوة الزمنية بين العالمين ساهمت الجغرافيا (الحروب وتبادل السلع) في تكوين علائق ثقافية تمثلت في الترجمة عن اللغتين العربية والعبرية وتطورت نحو تشكيل مدارس فكرية انقسمت فلسفيا بين تيار رشدي وتيار غزالي. وأدى الاختلاف بين المنظومتين إلى توليد توجهات نقدية حاولت الجمع بين المدرستين أو الطرد بينهما. ولعبت الجامعات والمعاهد التي نهضت في شمال إيطاليا في تكوين البذور الأولى للاستقلال المعرفي للنخبة الأوروبية. وبسبب قوة العامل الديني (الكنيسة البابوية) لم تستطع النخبة اختراق المقدسات والممنوعات وتجاوز حدود “العلة الأولى”.
الكنيسة آنذاك كانت مسيطرة واستمرت تسيطر بقوة على مقاليد المعرفة حتى العام 1453. فالدين كان دوره قويا في حياة الناس ولم يكن بالإمكان تجاوز مواقعه بسبب تدخل الكنيسة في تعطيل كل محاولة للنقد أو تصويب خرافات متداولة في الشارع ورجال الاكليروس. ونتيجة هذه الهيمنة تشكلت مجموعات من النخب في داخل النظام الكنسي (الدومينكان والفرنسيسكان) أخذت تشتغل على الترجمة وتعيد قراءة المناهج الفكرية التي أسستها النخب الإسلامية في عهود الازدهار. آنذاك أي قبل القرن الخامس عشر عرفت أوروبا بدايات تشكل نخبة تجمع بين الدين والفلسفة قادها القديس توما الاكويني (1225 - 1274م) في القرن الثالث عشر. ونجح الاكويني في إثارة نقاشات فلسفية تحت قبة الكنيسة مؤكدا المقولات الدينية ومعارضا بعض تلك الاجتهادات العقلانية التي كان يقول بها التيار الرشدي في أوروبا.
مهد الاكويني الطريق لبداية الجدل وأدى اجتهاده في المجال البحثي إلى تشجيع النخبة الأوروبية على مواصلة الرحلة الطويلة في عالم المعرفة فظهر في نهاية القرن الثالث عشر جون دانس سكوتس (1265 - 1308) الذي أخذ يشتغل على نتاجات أوغسطين والاكويني والفلسفة الإسلامية ما دفع الفكر النقدي خطوة جديدة إلى الأمام.
بعد سكوتس جاء دور وليم اف أو كهام (1285 - 1349) في القرن الرابع عشر الذي نجح في تطوير مقالات فلسفية ولكنه لم ينجح في تجاوز تلك الحدود التي كانت تفرضها الكنيسة على مجالات البحوث النقدية (العلمية والعقلانية).
حتى الآن لم تنجح النخبة الأوروبية في تكوين نواتها المستقلة عن الفضاءات الإسلامية بسبب لوائح الممنوعات التي كانت تفرضها الكنيسة ما أدى إلى عزلها في إطارات اجتماعية محدودة التأثير. فالجذور الثقافية لتلك النخبة كانت محكومة بالمؤسسات الدينية بينما كان لايزال دور معاهد التعليم والجامعات الأوروبية في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا هامشيا. آنذاك كانت الجامعات التي تأسست في القرن الثاني عشر لاتزال في طور النهوض ولم تكن في وضع يسمح لها بإنتاج شرائح موازية في التأثير على حركة التفكير، لذلك لم يكن بإمكان الفلسفة تجاوز تلك الممنوعات والمقدسات والدخول في حقول معرفية متقدمة تتخطى حدود الاجتهادات التي توصل إليها المسلمون من خلال ترجمة الفلسفة الإغريقية والاشتغال عليها على مدى ستة قرون.
إلا أنّ العامل الرئيسي الذي منع النخبة الأوروبية من التطور وتجاوز الموروثات يعود إلى عدم وجود حوافز تشجع التفكير بالتقدم وتحرض العقل على النقد. وساهم عامل انتفاء الحاجة إلى تكرار مقولات سابقة وإعادة إنتاجها في سياقات أكثر عصرية. وانتفاء المحرض على التفكير والإبداع والاختراع أدى إلى استقرار المعرفة العقلية عند حدود الدين وضفاف “العلة الأولى” ما أعطى فرصة إضافية للفلسفة الإسلامية في تطويل تأثيرها الزمني والمعرفي على النخبة الأوروبية.
إلى تقلص العامل النفسي (الرغبة) وتراجع موقعه في تشجيع النخبة على الإبداع لعبت البنية الاجتماعية دورها في ترسيم حدود التفكير وحصره في دوائر محددة تمثلت في الرسم والنحت والعمارة والأبنية الرسمية الكنسية. وبسبب حاجة الكنيسة إلى تطوير هيبتها وتحسين مواقع نفوذها وإطلالها على العامة لجأ الاكليروس إلى تشجيع الفن المعماري (الهندسة والنحت) بقصد تحديث الكاتدرائيات وتعظيمها وتفخيمها حتى ترفع من نسبة تأثيرها على الناس.
إلى جانب الكنيسة لعبت الأسر الأرستقراطية نشاطها المالي الموازي لدور الاكليروس في تشجيع المدارس الفنية وحثها على العمل والإنتاج في البناء والنحت والرسم لتلبية حاجات طبقة الملاكين. وأدى توظيف الأسر الأرستقراطية أموالها في الحقول الفنية إلى جانب طموح الكنيسة في إنشاء الكاتدرائيات الضخمة إلى تشجيع شريحة من النخبة الأوروبية على الإبداع والاختراع وتكوين نواة نهضة عمرانية - فنية في شمال إيطاليا.
هذا الجزء الصغير من القارة الأوروبية سيكون له دوره الإشعاعي الكبير في تنوير النخبة وتشجيعها على التفكير والإبداع وتأمين اختراعات تلبي حاجات التطور والاكتشافات. شمال إيطاليا كان قلب القارة ومركز نهضتها بين العام 1350 و1450.
ومن ذاك الجزء البسيط جغرافيا (فلورنسا) سينطلق الفن ليبلغ أوجَه في نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر حاملا معه رفاييل ودافنشي وانجلو وهي أسماء لاتزال تحفر في ذاكرة التاريخ.
قبل أن تبدأ أوروبا نهضتها كان لابد أن تتعرف على صدمة ستحدث هزة نفسية وتثير المخاوف والرعب وتحرض في الآن على البحث والتفكير عن حلول. وجاءت الصدمة من البحر (الموانئ) حين اجتاح القارة مرض الطاعون وبدأ الوباء يجرف معه القرى والمناطق.
أدى الطاعون الجارف في القرن الرابع عشر إلى تعطيل جزئي للتجارة (طريق الحرير) وساهم في تراجع الإنتاج وتقويض المعاش وانخفاض السكان وتوسيع رقعة الفقر وانتشار المجاعات والفوضى والخوف من الآخرة (نهاية الإنسان والكون).
ساهمت صدمة الطاعون التي اجتاحت مدن البحر المتوسط وعطلت خطوط التجارة في جرف المعالم العمرانية للكثير من الحواضر الإسلامية أيضا، كذلك عززت المعتقدات الدينية وكرست حالات من القلق والهلع والانكفاء إلى الخرافات وطلب المعجزات للإنقاذ من الهلاك الدنيوي. إلاّ أن الطاعون كان له دوره الإيجابي حين حث النخبة الأوروبية على التفكير والبحث عن علاج لمقاومة المرض. فالتحدي شجع على بذل الجهود لتطوير الطب واختراع الأدوية لوقف الوباء من الانتشار. ومنع هذا الجانب العلمي من التطور الكنيسة من التدخل بسبب حاجتها إلى اكتشاف يخفف من هلاك القارة واندثارها.
بعد تجاوز وباء الطاعون (المختبرات ومزج المواد الكيماوية) ستبدأ أوروبا خطوتها الأولى نحو التقدم المعرفي من طريق اكتشاف البحر مستخدمة في ذلك العلوم الملاحية لتلبية حاجتها للنمو وتعويض تلك الفترة الزمنية الصعبة التي امتدت إلى نهاية القرن الرابع عشر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2723 - الخميس 18 فبراير 2010م الموافق 04 ربيع الاول 1431هـ