يجمع المراقبون على أن الانتخابات النيابية العراقية التي اقترب موعدها ستكون لها انعكاساتها السياسية على ترسيم موازين القوى الإقليمية ودورها في ترتيب هيئة الدولة في المرحلة المقبلة. فالانتخابات عراقية صوريا ولكن مادتها إقليمية في الجوهر لكون الأطياف المتنافسة تتمتع بامتدادات تتجاوز جغرافيا بلاد الرافدين.
بناء على هذه الأهمية الاستثنائية بدأت المراهنات والتحليلات تتزاحم لتقديم قراءات وفرضيات بشأن القوة الأولى في المعادلة الداخلية وهي القوة التي سيكون لها الغلبة في كسر «التوازن» القائم حاليا بين الأطياف والمكونات.
التوقعات بهذا الشأن كثيرة. بعض تلك التوقعات لا يخلو من المبالغة في تضخيم القدرات الذاتية والتقليل من أحجام القوى الأخرى. وأكثر القراءات غرابة تلك التي تقول إن الناخب العراقي كره الطائفية والمذهبية وبات في موقع متقدم تجاوز تلك الأحزاب والمنظمات والفصائل والحركات والهيئات التقسيمية والانفصالية والعنصرية والمناطقية.
هذا التحليل المبسط للمشكلة يذهب إلى استنتاجات تبدو غير واقعية وتحتاج إلى براهين وأدلة لإثباتها. فالقراءة المتسرعة التي تنطق بها بعض التوجهات والاتجاهات تذهب إلى القول: إن الناخب العراقي سيختار في هذه الدورة «القومي» و»العلماني» و»الليبرالي» و»الديمقراطي» و»الحداثي» و»الوطني» وإلى آخره من مفردات ومصطلحات وعناوين.
الرأي المذكور يحتاج فعلا إلى تدقيق لتصديقه. فالمسألة ليست أمنيات وانها حقائق ميدانية يمكن ملاحظتها تتحرك على الأرض وتمتد إلى رأس الحكومة وأطرافها ومحيطها وجذورها وما يتصل بها من هيئات ولجان وتجمعات. المشاهد تشير إلى أن الطائفية والمذهبية والكراهيات العنصرية والأقوامية والمناطقية والقبائلية ازدادت وتراكمت واستفحلت وباتت جاهزة للقطاف.
السؤال المنطقي (البديهي) يمكن تركيزه على نقطة مركزية وهي: من أين يأتي العراق بتلك التلاوين والأطياف «القومية» و»العلمانية» و»الليبرالية» و»الديمقراطية» و»الحداثية»؟
فهذه المفردات ليست كلمات ومصطلحات يجري إطلاقها عشوائيا في الفضاء بعد تجريدها من مكوناتها الاجتماعية وروافدها الثقافية وخصائصها المتصلة بالتاريخ والوقائع الجارية يوميا على الأرض. المفردات المذكورة ليست إيديولوجيا، ولا يمكن التوصل إليها من خلال مراجعة الكتب الأجنبية أو الاطلاع على التقارير الساذجة التي تصدر تباعا عن هيئات ومؤسسات بحثية أوروبية أو أميركية.
هذه المفردات هي مصطلحات معاصرة، تم إطلاقها في الدول المتقدمة اقتصاديا والمتطورة اجتماعيا والنامية ثقافيا للدلالة على وجود قناعات سياسية واختيارات فردية معاصرة تتخطى منطق الجماعة الدينية ورغبة زعيم العشيرة أو قائد الطائفة أو مفتي المذهب. وهذه الحال المفترضة ليست موجودة في بلاد الرافدين ولا توجد دلائل ميدانية تؤكد فعلا أن الناخب العراقي وصل إلى مرحلة «الغثيان» من الطائفية والمذهبية وبات في موقع عصري متقدم يسمح له بالاختيار السياسي الفردي والمستقل عن هيمنة الجماعة الدينية ورغبات زعماء الطوائف والمذاهب والمناطق والأقوام والعشائر.
قراءة تفصيلات المشهد العراقي عشية الانتخابات تؤشر إلى أن البرلمان الجديد سيكون أكثر تخلفا من السابق في تكويناته الطائفية وأحقاده المذهبية ومجموعاته الكارهة للدولة الواحدة الموحدة والمستقلة. المسألة ليست أمنيات يجري إطلاقها في الفضائيات ويتم إسقاطها بالمظلات على تركيبات اجتماعية تبدو في تحركاتها وتصرفاتها مشدودة بأوتاد الماضي ولا تفكر بالمستقبل ولا تحلم بالاستقرار الذي يضمن الوحدة والتقدم والنمو والرفاهية.
العراق كما يبدو من الملاحظات التي تراكمت من خلال متابعة المشاهد الدراماتيكية على أنواعها مقبل على تجاذبات أهلية معطوفة على اتهامات بتزوير الانتخابات قبل عقدها بثلاثة أسابيع. فالعقلية الإلغائية التي سبقت مشهد إسقاط الورقة في صندوق الاقتراع أكدت على أن مناخ العراق غير جاهز بعد لتقبل فكرة الديمقراطية (التنافس والمداولة والتعايش).
ادعاء بعض الفرقاء أن الناخب العراقي وصل إلى درجة عصرية من التقدم والحداثة يحتاج إلى قراءة متواضعة لاكتشاف الأمور كما هي جارية وقائعها اليومية على الأرض. وحسابات الأرض تختلف دائما عن حسابات الفضاء وتحليلات الفضائيات.
المحلقون في السماء يرجحون فوز القوى «القومية» و»العلمانية» و»الليبرالية» وما شابه من مفردات ومصطلحات. السائرون على الأرض يرجحون فوز القوى الأكثر تخلفا وتعصبا في طائفيتها ومذهبيتها ومناطقيتها وعشائريتها.
حداثة العراق بعيدة تاريخيا عن المنال. والتوصيف الذي يرجح فوز القوى العصرية والمعاصرة يحتاج إلى تدقيق. للأسف البرلمان المقبل سيكون أسوأ من السابق. وهذا الأمر الذي يظهر في الصورة عراقيا لن يكون كذلك فعليا؛ لأن مادة الصورة في جوهرها إقليمية. وهنا مكمن الخوف من المترتبات التي ستنتج عنه في داخل بلاد الرافدين ومحيطها الجغرافي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2722 - الأربعاء 17 فبراير 2010م الموافق 03 ربيع الاول 1431هـ