اتفق الباحثون في «ندوة تونس» عن «حداثة» ابن رشد على أن بداية التوتر الفكري في أوروبا تراوحت بين حدين: الأول فترة البرت الكبير وتلميذه توما الاكويني وتصاعد القلق طردا بين قرار تحريم العقلانية ومحاربتها ثم التراجع عنه وقبول العقلانية وصولا إلى الحد الثاني وبداية عصر ديكارت الذي يمثل نهاية مرحلة تأثير الرشدية وبداية تأثير افكار الامام الغزالي في الفلسفة الاوروبية المعاصرة خصوصا «مسألة الشك».
لا شك في أن النهاية لها علاقة بالبداية وهي فترة البرت الكبير وتلميذه توما الاكويني. وبحث أستاذ الفلسفة ماجد فخري هذه المرحلة بتركيز على مسألة «قدم العالم» واختلاف الاكويني عن ابن رشد.
يذكر فخري أن الخلاف على المسألة بدأ إسلاميا منذ عهد الكندي حين أنكر الفيلسوف العربي قدم العالم أو أزليته و«التزم بالرؤيا القرآنية القائلة بحدوث العالم في زمان له بداية ونهاية». بعد الكندي جاء الفارابي وقال بقدوم العالم ورفض مقولة «حدوث العالم في زمان متناه»، وتابعه ابن سينا في نظرية الفيض أو «الصدور الازلي». ثم قام الامام الغزالي بنقض نظرية الفيض وأبان تهافت دعوة «قدم العالم» وأكد على حدوثه لأنه إذا «كان العالم قد وجد منذ الأزل، فليس لوجود الصانع ضرورة». فالعالم حادث أو محدث وهو ليس قديما ولا أزليا. ورد ابن رشد على الغزالي فقال إن علم الله لا يشبه علم البشر.
خلط ابن رشد أفكاره بأفكار ارسطو ونسب إليه نظريات لم يقل ارسطو بها، فأضاف نظرية الخلق منذ الأزل أي ان «العالم في حدوث دائم» بينما ارسطو لا يتطرق في فلسفته إلى الخلق أو الأحداث فهو يركز على مفهوم الحركة و«المحرك الذي لا يتحرك». واستغل توما الاكويني هذه الثغرة في فلسفة ابن رشد ورد عليه مؤكدا أنه لم يفهم ارسطو أو أنه نسب إليه نظريات لم يقل بها. وكرر التاريخ نفسه، فابن رشد اتهم الفارابي وابن سينا بعدم فهم ارسطو وخلطهما أفكاره بأفكار افلاطون بافلوطين... كذلك وجه توما الاكويني التهمة نفسها لابن رشد واتهمه بخلط أفكاره الإسلامية بأفكار ارسطو.
يستشهد الاكويني بابن رشد وقوله ان العالم مركب من صورة ومادة وهو أزلي، وأن الاجرام الفلكية غير كائنة فهي إذا أزلية لأنها غير فاسدة، وأن العالم أزلي لأنه لم يسبقه خلاء، وأن الزمان قديم وليس حادثا لأنه دائما نهاية زمان وبداية حركة (الزمن وسط بين الماضي والمستقبل ولا نهاية له).
يرد الاكويني على مقولات ابن رشد التي نسبها إلى ارسطو مؤكدا على أن الفيلسوف اليوناني أراد من هذه المسائل عرض آراء من سبقه ولم يرد إبطال أو إثبات أزلية العالم أو حدوثه. وهكذا نفذ من هذه الثغرة ليفند آراء قاضي قرطبة عن «قدم العالم» إذ يستحيل البرهنة على حدوث العالم بالرجوع إلى العلة الفاعلة. فالحدوث برأي الاكويني «لا يعرف إلا من خلال الوحي الذي عليه يقوم الإيمان». ويستنتج فخري أن موقف الاكويني من مسألتي القدم والحدوث ينقسم إلى قسمين: الأول سلبي يحاول تبرئة ارسطو من تهمة القول بأزلية العالم، والثاني إيجابي يرد فيه القول بالأزلية إلى الوحي أو الإيمان.
الاكويني وابن رشد
يقترب الاكويني في نقده لابن رشد من رأي الفارابي كذلك من ابن ميمون الذي عاصر فيلسوف الاندلس وتابع نتاجه الفكري من القاهرة. فالفارابي أكد على أن ارسطو لم يرد في فلسفته التدليل على احد طرفي المسألة (القدم أو الحدوث) وإنما كان غرضه التمثيل على قضايا جدلية يصعب البت فيها بالبرهان. فارسطو برأي الفارابي لم يقل بقدم العالم بل عنى ان الزمان هو عدد الحركة وهو لم يتكون أولا فأولا بل دفعة واحدة بلا زمان وعن حركته حدث الزمان. فهو أراد إثبات الصانع لا نفيه. ويستنتج فخري أن ابن ميمون وتوما الاكويني اقرب إلى رأي الفارابي في موضوع قدم العالم وحدوثه منهما إلى رأي ابن رشد. فعند ارسطو أزلية العالم وأبديته من المسلمات. بينما ابن رشد قال بالجواهر (الموجودات المفردة) وهي أول الأشياء وليست فاسدة فهي موجودة دائما (العلة الدائمة) ثم قسم الإحداث إلى نوعين: الاحداث الدائم أو الازلي، والأحداث المنقطع. وحتى لا يقع في الالحاد ادخل ابن رشد تعديلا على موقف ارسطو انطلاقا من نظرته القرآنية فقرر أن العالم مخلوق من لا شيء وأن للزمان بداية ونهاية. وهو موقف فلسفي يشابه فلسفة الكندي.
بعد أن انتقد الاكويني ابن رشد واتهمه بتشويه أفكار ارسطو، قام بتسجيل اختلافه عن ارسطو مؤكدا على مسألتي الخلق من لا شيء والزمان له بداية ونهاية، منتهيا إلى اثبات وجود الصانع واسبقيته وبالتالي فإن المادة مخلوقة، لأن المادة الأولى من صنع السبب الأول والحدوث يحصل للاعراض لا للجواهر. فعند الاكويني الدليل العقلي يعجز عن اثبات الاشياء كلها وان الوحي هو دليل على حدوث العالم.
مع أن ابن رشد رد على الغزالي والأشاعرة انطلاقا من أدلة ظنية نسبها إلى ارسطو الذي «لم يورد حججا عقلية قاطعة على أزلية العالم» فإنه استمر يلتقي مع الاكويني، وإلى حد ما مع الغزالي، في مسألة الاحداث أو الايجاد وهي لم يتطرق إليها ارسطو «في مؤلفاته المعروفة». فالحدوث عند ابن رشد أو «الايجاد الازلي» يعني أن العالم مخلوق وهو يتركب من مادة وصورة أزليتين وينبغي إسناد هذا الرباط إلى الفاعل الأول (الصانع).
مشكلة اللغة
إذا كان ابن رشد لا يقرأ اللغة اليونانية، فكيف تسنى له أن يفهم أرسطو ويشرحه وخصوصا في المسائل العويصة كالعلم الطبيعي مثلا؟
لم يتطرق المشاركون في «ندوة تونس» إلى هذه المسألة المهمة واكتفى معظمهم بشرح وجهة نظر ابن رشد وتعليقاته وتوضيحاته لفلسفة أرسطو والدفاع عنها ضد الإمام الغزالي، أو عرض انتقاداته لأفكار الفارابي وابن سينا حين اتهمهما بخلط الافلاطونية بالارسطوية.
حاول رئيس قسم الفلسفة في جامعة بغداد آنذاك حسام محيي الدين الالوسي استخلاص مذهب ابن رشد الخاص انطلاقا من نقده لفلسفات الوجود، وهو الأمر الذي يميزه منهجيا عن أرسطو.
يرفض الالوسي مجاراة من يقول ان مذهب ابن رشد الخاص هو مذهب أرسطو. صحيح ان ابن رشد يرفض اجتهادات المتكلمين وفلسفة الفارابي - ابن سينا الفيضية، ويؤكد على العودة إلى القرآن وآياته بعيدا عن اجتهادات المتكلمة، إلا أنه، وفي هذا المعنى، يشكل، برأي الالوسي، نكسة في حقل الاجتهاد الإسلامي حين يرى ان الحقيقة قيلت مرة واحدة وإلى الأبد. فابن رشد يخالف في الحقل المذكور أرسطو على رغم ان عودته إليه كانت عودة «عقل واع». يقوم مذهب أرسطو في الوجود على فكرة المحرك الغائي الذي لا يتحرك. فالعالم برأي أرسطو أزلي أبدي وهو قديم على أساس قدم المادة والزمان والحركة أو قدم «العلة التامة». ويخالف الالوسي في استنتاجه ما ذهب إليه ماجد فخري استنادا إلى تحليلاته لمقولات توما الاكويني وابن ميمون والفارابي بشأن نظرية أرسطو عن «قدم العالم» حين ذكر ان أرسطو طرح اسئلة ولم يرد الاجابة عنها، واكتفى بعرض آراء من سبقه وهو موضوع لم يفهمه ابن رشد في سياق سجاله ضد المتكلمة والفلاسفة المسلمين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2352 - الخميس 12 فبراير 2009م الموافق 16 صفر 1430هـ