هل يعود الحب المنطفئ بين رجل وامرأة بعد عقد من الزمان؟ هل يمكن أن تلتئم جراح زوجين انفصلا بعد خيانة «بينة» من أحدهما فتعود مياههما إلى مجاريها وكأن شيئا لم يكن؟ هل يعقل أن تخطف امرأة خمسينية زوج عشرينية تمتلئ أنوثة وجمالا ونجاحا وتألقا؟ هل يجوز أن ترتدي الزوجة «التي تم خيانتها قبل أعوام» حذاء الزوجة الجديدة فتخون كما تم خيانتها، ومع من؟ مع بطل قصة الخيانة الأولى، زوجها الذي فضل الأخرى الأكثر جمالا وأناقة وجاذبية؟
هذه فقط بعض الاستفهامات العديدة والتساؤلات المحيرة التي يمكن أن تشوش تركيز المتفرج على فيلم «إنه معقد It ‘s Complicated» وتربك ذهنه وتؤدي به إلى «لخبطة» حقيقية على مستوى كل قيم الخير والشر والفضيلة والرذيلة والصواب والخطأ والقبح والجمال والمضحك والمبكي والمعقول واللامعقول والمنطق والجنون كل متناقضات الكون.
إنه بالفعل فيلم معقد يناقش قضية معقدة للغاية طارحا إشكالات هي الأخرى غاية في التعقيد. إنه فيلم مربك، حبكته مربكة، شخوصه محيرة، أبطاله «يثيرون تساؤلاتك، شكوكك، وحتى ظنونك وهواجسك»
زوج خمسيني (أليك بالدوين) انفصل عن زوجته وأم أبنائه الثلاثة (ميريل ستريب) منذ عقد من الزمان، لكنه حين يلتقيها فجأة في منزل صديق مشترك، يشعر بحنين مفاجئ ويجد نفسه منجذبا للغاية لزوجته التي هجرها قبل أعوام مع سبق إصرار وترصد. يبدأ على الفور في «مغازلتها»، ويبدو كل شيء مقبولا مع بعض التحفظات، لكن الملامح الأولى لحيرة المتفرج تأتي حين تظهر في المشهد أغنيس (ليك بيل) الشابة الجميلة ممشوقة القوام التي تستعرض الكاميرا جسدها الرشيق. مظهرها الممتلئ شبابا وحيوية يجعلنا نظن أولا أنها ابنة الزوجين المنفصلين لكن نكتشف لاحقا أنها الزوجة الجديدة للزوج الخمسيني. ها هي علامات الحيرة تتزايد، تقفز في الأفق، وثاني «لماذا» تحوم في ذهن المتفرج.
فجأة يجد الزوجان (جين وجاك) أنفسهما في فندق واحد لحضور حفل تخرج ابنهما، إنها الصدفة ليس سواها، لكنها صدفة كانت في الفيلم «أجمل من خير ميعاد»، تعقد الأمور تشوش المحيطين لكنها ترجع الحب القديم والعاطفة الجياشة السابقة.
فجأة أيضا يجد الزوجان نفسيهما متورطين في علاقة عاطفية، وتجد جين نفسها وقد أصبحت المرأة الأخرى، أي أغنيس قبل عشرة أعوام أو يزيد، ويشرح الأمر لها زوجها محاولا فك شيء من حيرتها وحيرة المتفرج حين يقول «لماذا لا نصبح كالفرنسيين الذين يختارون عشيقات أكبر سنا من زوجاتهن؟»
ما يزيد الأمر تعقيدا هو ظهور المهندس آدم «ستيف مارتين» الذي تستعين به جين لإعادة تصميم مطبخها والذي يتعافى هو الآخر من آثار انفصاله «منذ عامين»!!! يقع آدم في حب جين لكنه يجد نفسه فجأة في وسط «مثلث حب». لا تبادله جين الحب لكنها تبدو منجذبة إليه بطريقة ما، ثم فجأة تدخن معه سيجارة حشيش وتدعوه للعشاء وتأخذ علاقتهما منحى آخر، يعقد الأمور ويملأ الفيلم بعدة تساؤلات، إن أضيفت لتساؤلات المتفرجين أصبح الأمر غاية في التعقيد.
قصته التي تملؤك تساؤلات ستقودك حتما للرغبة في معرفة المزيد عمن يكون قد كتبها ثم أخرجها وأخيرا أنتجها وقدمها فيلما على الشاشة. وحقيقة، حين تعرف أنها نانسي مايرز، ستجد إجابات لبعض تساؤلاتك. ونانسي مايرز لمن لا يعرفها، هي كاتبة سيناريو، ومخرجة، ومنتجة منفذة شهيرة. بدأت منذ مطلع الثمانينيات وتخصصت في أفلام الكوميديا العائلية، حققت فيها نجاحات لا بأس بها بأفلام أمتعتنا جميعا مثل فيلم Father of the Bride (1991) وThe Parent Trap (1998). أهم ما كان يميز أفلامها هو توجهها الواضح لجمهور العمر المتوسط، وكان ذلك أمرا مميزا في هوليوود، لم يسبقها إليه أحد ولا ينافسها فيه أحد.
بعد نجاحاتها تلك بعشرين عاما قررت مايرز اتخاذ منحى أكثر تخصصا، استمرت في تقديم اللون الرومانسي الكوميدي لكن لاحظ الجميع تغيرا في بطلات أفلامها، بطلاتها الجدد نساء ناضجات مستقلات بأنفسهن قادرات ومتمكنات من أن يحصلن على «كل» ما يردن. قدمت What Women Want (2000) و Something’s Got to Give (2003) وهاهي الآن تقدم It’s Complicated .
في كل هذه الأفلام تكون البطلة ناضجة في شخصيتها وفي سنوات عمرها، قوية الشخصية، صلبة الإرادة، مستقلة ماديا وفي الوقت ذاته شديدة الجاذبية فاتنة للرجال ممن هم في مثل عمرها. يتوددون إليها ويبدون أقل منها شأنا، وظيفيا أو اجتماعيا أو على الأقل عاطفيا.
التغيير الذي طرأ على منحى مايرز في الكتابة، وأخذها للإخراج والإنتاج، هو تغيير مهم للغاية لتقديمه هذه الصورة الحديثة للمرأة العصرية، صورة فيها كثير من التمرد على كثير من الحقائق الطبيعية، والاجتماعية والمنطقية. صورة فيها كثير أيضا من توجهات الحركات النسوية، وإن كانت نسوية مايرز مختلفة ومميزة للغاية كأفلامها العائلية.
لكن نظرة معمقة على حياة مايرز تكشف أن هذه المرأة لم تبدأ في تقديم هذه الصورة الجديدة للنساء إلا بعد انفصالها عن زوجها نهاية التسعينيات من العقد الماضي، وهو انفصال عاطفي وأسري ومهني، فزوجها كان شريكها في كتابة سيناريوهات أفلامهما الأولى جميعها. الانفصال أثر في نفسها كثيرا وترك جروحا نازفة بداخلها. داوتها بالمثابرة على الكتابة وبتحويل آلامها لأفلام ترجمت فيها أفكارها ورؤيتها الجديدة للحياة. قدمت فيها صورا لم يسبقها إليها أحد وأفكار هي غاية في الجنون والتمرد ما أظنها تخطر على بال رجل... «مجروح».
وبالمناسبة فقد بلغت أرباح هذه الأفلام أضعاف تلك التي حققتها من أفلامها التي قدمتها مع زوجها، فعلا لا أقوى من امرأة مجروحة. نانسي مايرز هي الفيلم كله وحياتها الخاصة هي الخلفية التي بنيت عليها الشخصيات، لا يعني ذلك أن القصة حقيقية لكن يعني أن مايرز تقدم طموحاتها، أحلامها وهواجسها النسائية «النسوية Feminist» عبر هذا الفيلم.
مع كل التعقيدات ستملؤك القصة ضحكا، إذ برغم كل شيء قدمت مايرز فكرتها أو ربما عبرت عن هواجسها بشكل مضحك. ميريل ستريب، وإن انزعج البعض من أدائها واعتبروه مبتذلا لممثلة في مثل تاريخها الفني وعمرها، وعلى الأخص بسبب مشاهد تدخينها لسيجارة الحشيش وتقديمها لصورة تمجد الخيانة بشكل أو بآخر، إلا أنها تمكنت من الأداء الكوميدي. أليك بالدوين، بدا بدينا وعجوزا لكنه مضحك و... جذاب.
فكرة عودة الحب القديم حتى بعد انفصال طويل وفكرة جاذبية المرأة الأكبر سنا وتفضيلها على الأصغر سنا الممتلئة أنانية فكرة مجنونة ومقلقة لكنها رغم كل شيء تثير كثيرا من الضحك والتساؤلات، وتصلح مادة لفيلم رومانسي كوميدي جديد في طرحه و... جنونه.
العدد 2722 - الأربعاء 17 فبراير 2010م الموافق 03 ربيع الاول 1431هـ