على خلاف الانفعالات الحديثة مثل القلق والاكتئاب، فإن الكراهية تمتاز بأنها شعور عريق في تاريخ البشرية، كما كان التعبير عن هذه الكراهية يمتاز بعراقة مماثلة. فطوال التاريخ كان الناس يكرهون، وكان الدم يغلي في عروقهم وقلوبهم كراهية لشيء أو لشخص أو لجماعة، كما كانوا على استعداد لأن يحرقوا الآخرين بلهيب كراهيتهم البغيضة، بل كانوا على استعداد كامل لأن يدفعوا حياتهم ثمنا لهذه الكراهية. وطوال هذا التاريخ، كذلك، كان ثمة سُبُل ومسالك عديدة تسمح لهؤلاء البشر بتصريف طاقة الكراهية العنيدة التي تعتمل في قلوبهم بلا هدأة أو توقف. وكثيرا ما نجح البشر في تصريف هذه الكراهية عبر العنف المكشوف الذي يستهدف إيلام الآخرين المكروهين وجرح مشاعرهم وإيذاءها في الصميم، أو حتى محوهم من الوجود إذا تطلب الأمر ذلك، وإذا بلغت الكراهية أوج عنفوانها الذي لا رجعة فيه. وفي أحيان أخرى، كان يُكتفى بتصريف هذه الكراهية عبر التعبير عنها وإشهارها والمجاهرة بها علنا، وذلك من خلال توجيه الشتائم والسُّباب والإهانات للمكروهين الذين قد يعاديهم الحظ فيكتب عليهم أن يسمعوا هذا النوع من الخطاب المؤذي بحقهم، وقد يحالفهم الحظ بحيث يتناثر خطاب كراهيتهم في الهواء قبل أن يطرق آذانهم. وفي تاريخ العرب كان لهذا النوع من تصريف الكراهية قوة العلاج، وقد قيل في كلامهم «إن الصدرَ إذا نَفَثَ بَرَأَ»، ومن أمثالهم، كذلك، «لا بدّ للمصدورِ أن يَنْفُثَ».
كل هذا كان في متناول جميع القادرين على الكراهية، وجميع القادرين على المجاهرة بها علنا. ولقد كان هؤلاء يجدون في إشهار كراهيتهم برهان تفوقهم على الآخرين. وربما كانت ممارسة الكراهية، بالنسبة إليهم، مصدر متعة لا مثيل لها. وطوال هذا التاريخ لم يكن يترتب على هذا النوع من إشهار الكراهية أية عقوبة قانونية (هل كان ثمة قانون ينظم ذلك أصلا؟).
ومع هذا لا ينبغي أن يتبادر إلى ذهننا أن خطاب الكراهية كان هيّنا وبهذه السهولة، أو أنه لم يكن باهظ التكاليف وعظيم التبعات. نعم، قد يُكتفى، أحيانا، بالردّ على الكراهية بكراهية مضادة، كأن يرد على الشتيمة والسبّ والإهانة بشتيمة وسب وإهانة مثلها. وبحسب نقل الجاحظ فإن كشف المعاداة والرد على العداوة بمثلها كانتا من عادات العرب، وقيل «هذه أنفس العرب»، وفي هذا يقول عُروة بن المغيرة:
لا أتقي حَسَك الضغائن بالرُّقى فعلَ الذليل ولو بقيتُ وحيدا
لكـن أعـدّ لها ضـغـائن مثلـهــا حتى أداوي بالحقـود حُقودا
ربما كانت هذه «أنفس العرب» وعاداتها، إلا أن علاقات الكراهية لا تتعلق، بالضرورة، بـ»أنفس العرب» أو غيرهم، بل بميزان القوى وعلاقات القوة والهيمنة، فحين يكون المستهدف بالكراهية والضغينة ضعيفا ومغلوبا على أمره، فليس أمامه سوى الاستسلام والاكتواء بخطاب الكراهية وتلقي الضربات الموجعة وانتظار لحظة الانتقام. وهو عاجز عن الرد؛ لأن الرد أكبر من طاقته وقد يكلّفه غاليا، وإذا ما فقد الضعيف صوابه وغلب جنونُه غريزتَه المكلّفة بحفظ حياته، فإنه سيندفع للردّ على تلك الكراهية، إلا أن عليه أن يكون مستعدا لتحمّل تبعات ردّه أو حتى تبعات المجاهرة به ابتداء في حق الأقوياء. وفي مثل هذا الموقف، فإن الكراهية لن يرد عليها بكراهية مضادة، بل بكراهية أعنف منها، كراهية قد تتوّج، بعد انجلاء غبار المواجهة، بلسان المرء المقطوع أو بجثته المعلّقة فوق المشنقة، وكل هذا لم يكن لشيء سوى أنه تجرأ (ولنقل تهوّر) على المجاهرة بكراهية القوي أو حتى على الرد على كراهيته. الحياة واللسان هنا هما الثمن الذي يطلب القوي قبضه كمعادل لكراهيته.
وهذه حالات متكررة في التاريخ، وكثيرا ما كانت تجري إذا كان المستهدف بالكراهية أقوى ويتمتع بسلطان أكبر من صاحب خطاب الكراهية. وبحسب الجاحظ فإن المتأمل في «أخيار الماضين» لا يحصي «عدد من قتله لسانه وكان هلاكه في كلمة بدرت منه» (رسائل الجاحظ، ج:1، ص170). وقد تنبّه اللغويون العرب القدماء، بسبب هذا التلازم المتكرر في التاريخ بين الكلام والهلاك، إلى أن في الكلام متضمنات ومستلزمات تتجاوز حدود الدلالة والمعنى المباشرين لتحيل على الشدة والجرح والشر وما يستتبع ذلك من هلاك. فالكَلْم، في لسان العرب، هو الجرح، والكليم هو الجريح. وقد أدرك ابن جنّي، وهو أحد علماء العربية الكبار في القرن الرابع الهجري، أن بين الكلام والجروح قاسما مشتركا، وهو الشرّ والشدة؛ لأن الكلام هو «سبب لكل شرّ وشدة في أكثر الأمر» (الخصائص، ج:1، ص15 ). فقد يصح القول بأن الإهانة والسب والشتيمة هي، في نهاية المطاف، مجرد كلام، ولكنه كلام ينطوي على شر وشدة غير محتملين. ولهذا فإذا ما جرى إنتاج خطاب الكراهية الشديد والشرير أو حتى تداوله في سياق الاختلال الكبير في موازين القوة، فإن على الضعيف أن يدفع، مُكرها، ثمن كراهيته للقوي بتقديم حياته أو لسانه (رمز القدرة على النطق) قربانا، في مشهد هو أشبه بطقس شعائري للتضحية والفداء والتكفير عن الذنب، إلا أنه، هذه المرة، طقس يقام بهدف الخلاص من الكراهية ومحوها بصورة مطلقة بالموت أو بالخرس، أو ربما بهدف تطهير الضعفاء من إثم كراهية الأقوياء. هذه كراهية باهظة الثمن، بل هي أكبر من أن يعادلها ثمن.
يحدث هذا في حالات الكراهية المتبادلة بين الأفراد، كما يحدث في حالات الكراهية الجماعية، إلا أن حجم العنف والقسوة والدموية سيكون مضاعفا هذه المرة. وإذا عدنا إلى الجاحظ، مرة أخرى، فسنجد أنه لا يتردد في إرجاع «جميع شرور الدنيا» وجميع الحروب العريقة في التاريخ إلى خطاب مستفز منفلت من عقاله جرى التعبير عنه في صورة «كلمة عارت أفلتت] فجنت حربا عَوَانا، كحرب بكر وتغلب ابني وائل، وعبس وذبيان ابني بغيض، والأوس والخزرج ابني قيلة، والفِجار الأوّل والثاني، وعامة حروب العرب والعجم» (رسائل الجاحظ، ج:1، ص170).
ومع كل هذا، فإن خطاب الكراهية المنفلت كان منتعشا، وكانت الكتب تعجّ به، والخطب تشتعل بلهيبه، وأحاديث الناس اليومية لا تخلو منه. وكان لدى الناس من القوة والجرأة ما يجعلهم قادرين على إنتاجه وتداوله، وقادرين، كذلك، على تحمل تبعاته وعواقبه الخطيرة. فجأة تغيّر كل شيء، وصرنا، بدل الجرأة، نتعامل بحذر مع هذا النوع من الخطاب، وصار إنتاجه وتداوله من الأمور الصعبة وباهظة التكاليف في المجال العام. وعلى الشاكلة ذاتها، أصبح معظمنا لا يمتلك من قوة التحمل ما يجعله متزنا وثابتا حين يسمع ألفاظا نابية تحقيرية بحقه أو حين يرى نظرات شَزْرَة تشهر أمامه كراهيتها البغيضة والمؤذية. فجأة تغيّرت نفوسنا، واهتزت جرأتنا وقوة تحملنا، وصرنا – أو معظمنا على أقل تقدير- عاجزين عن التعبير عن كراهيتنا التي تعتمل في قلوبنا، وعاجزين عن تحمل تبعات انطلاقتها باتجاه أهدافها، وأكثر عجزا حين نكون نحن أهدافها.
كان يمكن لمؤلفات ضخمة تفيض حقدا وكراهية بحق جماعة من البشر أن تمرّ دون أدنى معارضة أو احتجاج، وقد ينبري أحد أبناء هذه الجماعة للدفاع أو للردّ على الكراهية بكراهية مضادة، وتنتهي الحكاية عند هذا الدفاع اليتيم والردّ المعزول. أما اليوم فإن جملة واحدة فقط صارت كافية لإثارة الحشود المهتاجة التي ستقيم الدنيا ولا تقعدها إلا بقيام صاحب الجملة المؤذية بسحبها والاعتذار عنها علنا. يمكن التذكير هنا بخطابات الكراهية المؤذية بحق النساء في الثقافات الذكورية، كما يمكن التذكير بخطابات الكراهية بحق السود في الثقافات العنصرية، وهي خطابات كوّنت المادة الأساسية لإرشيف ضخم من المؤلفات والسير والحكايات والأشعار والأمثال والنوادر التي لم تكن لتتحرج، طوال ذلك التاريخ، من الحديث، علنا، عن دونية النساء وضعف عقولهن، وعن حيوانية السود وبهيميتهم وشهوانيتهم المفرطة.
كان يمكن لمثل هذه الكراهيات العريقة الجنوسية والعنصرية أن تمرّ في التاريخ دون انعكاسات خطيرة، إلا أن الوضع تغيّر اليوم، وصارت جملة واحدة كافية لتثير الاحتجاج والغليان إذا ما شُم منها رائحة الكراهية بحق هذه الجماعة أو تلك الفئة. هل هذا يعني أننا سائرون في اتجاه تفقد الكراهياتُ العريقة، في نهايته، ثقلها وجرأتها؟
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2720 - الثلثاء 16 فبراير 2010م الموافق 02 ربيع الاول 1431هـ
الكراهية عنيدة
الكراهية يا دكتور عنيدة مثل ما تقول أنت، فكيف تفقد جرأتها؟ الناس كانوا يكرهون ومازالوا يكرهون وفي المستقبل ايضا
الى متى
نعتقد ان ليس هناك دافع للكراهية اكبر من اختطاف لقمة العيش وفرص العمل والسكن والاستقرار والامان من قبل المواطنون الجدد الذين تم استجلابهم لسرقة البلد وفرص العيش من المواطنين الاصلين