من يراجع جلسات البرلمان الأخيرة لن يجد أمامه من حوارات القضايا المهمة سوى مجموعة من «المشاحنات» بين النواب والوزراء، أو من «المهاترات» بين النواب أنفسهم. فما أن تهدأ زوبعة «طيران الخليج»، حتى يهب علينا «تسونامي البيوت» التي تصر الدولة، دون أن تثبت، على أن تطلق عليها صفة «الذكية»، وقبل أن يسترجع المواطن أنفاسه، يفاجأ بانفجار بركان «الملاسنة» بين رئيس المجلس النيابي وأحد أو بعض الأعضاء.
وعندما نغادر أروقة البرلمان ونتوجه نحو الشارع السياسي لن نجد الصورة أفضل مما هي عليه تحت قبة البرلمان، بل ربما تكون استمرارا لما تشهده ردهات المجلس، إذ لا يكف المواطن عن التذمر، ولا تتوقف الدولة ومؤسساتها عن التبرير. ومحصلة كل ذلك أزمة مستمرة بين ذلك المواطن وتلك الدولة، وضياع بوصلة الحوار داخل بناء السلطة التشريعية، وتأزمها بين هذه الأخيرة وممثلي السلطة التنفيذية.
وإذا ما ولجنا مقرات الجمعيات السياسية، وعلى وجه الخصوص تلك التي يتشكل منها التيار الوطني الديمقراطي، فسوف تصلنا أصوات المنادين، التي تعلو دون أن تخفت، داعية إلى التوصل إلى الصيغة الأفضل لبلورة شكل من أشكال العمل التنسيقي بين تلك القوى لخوض معركة انتخابات 2010.
هناك أسباب كثيرة تقف وراء هذه الحالة شبه الهلامية المحبطة التي تسير العلاقات السائدة بين الأطراف الضالعة في اللعب على ساحة العمل السياسي البحرينية، سواء كانت في صفوف المواطن، أو بين أطراف المعارضة، أو في داخل إدارات الدولة. لكننا لو أمعنا النظر بحثا عن السبب الرئيسي الذي يقف وراء ذلك كله، فسوف نكتشف أنه «ضياع المقاييس» التي تحكم خطى أي من تلك الأطراف.
ولنبدأ بالدولة والمقاييس التي تحكم سلوكها عند رسم خططها السنوية أو برامجها التنموية، وننتقل من ذلك إلى آلية اختيار أعضائها أو ترقية موظفيها. ولو حصرنا المسألة في المقاييس التي تحكم آليات وضع تلك الخطط، وبناء عليه تشكيل مجلس الوزراء، وتساءلنا، ما هي المعايير التي تتمسك بها الدولة في كل خطوة تخطوها على ذلك الطريق؟ فلربما تفاجأنا بالعفوية الشديدة التي تتحكم فيها، التي تصل إلى مستوى العشوائية.
وليست المقاييس التي نتحدث عنها هي كتابة خطة هنا أو تعيين وزير هناك، بقدر ما نبحث عن نظام متكامل يشخص احتياجات البلاد ويحولها إلى مشروعات يولي مهمة تنفيذها لمن يحملون كفاءة نقلها إلى حيز الواقع.
وعند الحديث عن المقاييس التي ينبغي أن تتقيد بها الدولة، لابد من التأكيد على أنه ليست هناك مقاييس مطلقة تتمتع بالسرمدية، وتكتسب صلاحيتها لكل مكان وزمان، بقدر ما ندعو إلى التمسك بها من أجل تنفيذ خطة معينة، في زمن محدد، وعلى أيدي كفاءات بشرية مختارة تتمتع بالمهارات التي يحتاجها تنفيذ تلك الخطط. ومن الطبيعي أن الكفاءات التي تحتاجها خطط دولة في حالة حرب، تختلف نوعيا عن تلك التي تتطلبها دولة لاتزال تؤسس بنيتها التحتية، وبعيدة كل البعد عن دولة تبحث عن أشكال التطوير، أو قنوات التقدم، المنطلقة من اقتصاد ناضج ومتين.
متى ما تحقق ذلك، سنكتشف أن الآلية ذاتها ستحكم سلوك المواطن عند اختياره لمن يمثله في السلطة التشريعية، إذ سيجد هذا المواطن نفسه حينها، شاء أم أبى، مطالبا بأن يخضع قراراته لمقاييس دقيقه قادرة على مسايرة سياسات السلطة. والنتيجة المنطقية لذلك، هي اختيار نواب، كما هو الحال عند تعيين الوزراء، يتمتعون بالكفاءات التي تحتاجها مناقشات برامج الدولة، أو مساءلات وزرائها. وستتلاشى جراء ذلك أجواء الملاسنات «البيزنطية»، كي تحل مكانها المناقشات الساخنة البناءة التي يدعم كل طرف فيها أقواله بالحقائق التي يحتاجها منطق البحث عن حلول تضع الأمور في نصابها الصحيح، وتحصن البلاد من أية أزمات غير طبيعية. ويخضع كل ذلك لنقطة الانطلاق التي وضعت عندها المقاييس.
وسيسحب هذا المنطق نفسه على قوى التيار الوطني الديمقراطي وهي في سياق بحثها عن برنامج ينسق خطواتها، تفتيشها عن صيغة تلج بها حلبة انتخابات 2010، إذ لابد من أن تكون هناك مقاييس صارمة، تقيد بها تلك القوى نفسها، وهي على طريق تحديد آليات صياغة أي برنامج انتخابي مشترك موحد، أو برامج انتخابية متعددة، لكنها متكاملة، وغير متضاربة، فيما بينها، وقادرة على مقارعة، وليس محاربة، خطط السلطة وبرامجها. لكن الأهم من هذا وذاك، أن تنعكس تلك المقاييس عند تحديد الرموز الانتخابية التي ستختارها القوى لترشيحها لتلك الانتخابات.
لابد لنا أن نناشد قوى التيار الوطني الديمقراطي، تماما كما نطالب الحكومة، أن تتخلى عن اعتبار الانتساب لها بمثابة «المطهر» الذي يكفل شرعية ادعاء من يمر به امتلاكه أهلية كسب ثقة المواطن وهو يدلي بصوته، إذ لابد من وضع مقاييس صارمة، تكون مقبولة من لدن المواطن، قبل أي طرف آخر، تبيح لقوى التيار الوطني الديمقراطي تسمية مرشحيها على أساسه، ونيل ثقة المواطن بناء على ذلك.
ولو أمعنا النظر في تلك المقاييس التي سيلزم كل طرف، من الأطراف التي تناولناها، نفسه بها حين يضع برامجه أو يختار ممثليه، سنجد أنها جميعا تشكل حلقات مترابطة في نظام سياسي متكامل، يأخذ البحرين، بسرعة، لكن بخطى ثابتة، نحو مجتمع المملكة الدستورية الذي يحلم الجميع بالوصول إليه، والعيش بين ربوع قوانينه.
لا يعني ذلك انعدام المشكلات، ولا تلاشي المناقشات، لكنها جميعا، وعندما يسود منطق المقاييس، ستتحول من مجرد مشاحنات تهدر القوى، وتضيع الفرص، وتثير الأحقاد، وتنشر روح الإحباط، إلى نقاشات تستفيد من القوى الوطنية الكفؤة، وتستثمر في المهارات المحلية المنتجة، فتثري المجتمع وتشيع روح التفاؤل وتزرع بذرة التقدم.
ونقطة الانطلاق في ذلك الماراثون، هو إلزام الحكومة نفسها، قبل أي أحد سواها، بأن تتقيد بتلك المقاييس. فإذا رفضت الحكومة ذلك، فمن الطبيعي أن ينفرط عقد تلك الحلقات، وتنتشر الفوضى بدلا من أن يحل النظام ويسود المنطق
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2718 - السبت 13 فبراير 2010م الموافق 29 صفر 1431هـ