قبل يومين كتبتُ عن استقطابات «القاعدة» لأفرادٍ ميسورين. وآخرين متحصّلين على درجات متقدمة من العلوم بشتّى حواضرها ومراتبها، كاعتقال إدارة المخابرات الداخلية في مدينة فيين بمنطقة الإيزير الفرنسية لأخوَين شقيقين أحدهما يعمل باحثا متخصصا في مركز البحوث النووية في جنيف.
بل إن بعضهم ينتمي إلى العالَم الأول وأجوائه وظروفه، وبعضهم لا ينتمي إليهم بالبطاقة الخضراء، كاللاجئين؛ وإنما عبر النّسب الأصيل والتاريخي كما هو في حالة جون ووكر. وهو بحق، تطوّر مُلفِت في مسيرة هذا التنظيم منذ نشأته في نهاية تسعينيات القرن الماضي.
كان الحديث حول ذلك قد انتهى من حيث بدأت لوثة الإمبريالية الأنغلوساكسونية في تشييد نظام توراتي مُتعلمِن على الأراضي الفلسطينية نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، يجترّ شرعيته من الألواح التاريخية المركونة، الأمر الذي حفّز مجموعة كامنة من القيم الدينية المضادة لأن تأخذ مكانها على خطّ الصراع.
في السابق، كَتَبَ الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه على هامش بحثه المُعنوَن بـ «الدين في الديمقراطية» بأن الدين يعتبر «القاعدة الأعمق للتفكير ولتحديد السلوك، وشكّل منذ نشوء التقاليد اليهودية والمسيحية، مُحدّدا شرعيا ورئيسيا للسلطة والعلاقات الناجمة عنها».
ولأنه كذلك، فقد حدّدت تداعيات ما بعد قيام الكيان الصهيوني لأن تنتفخ الدعوات المُنادية باستدعاء «الديني» في الفضاء العام. كما أن التجيير الغربي للمنظّمات الإسلامية بغرض مقاتلة المدّ الأحمر، ثم انهياء الاتحاد السوفياتي، ساعد على بروز مثل هذه النزعة بقوة.
لقد تهيأ الفضاء أمام المنتصرين في الحرب الباردة للاندفاع صوب تشييد نظام عالمي يتحكّم فيه الغالبون في المعركة، ويُصاغ وفقا للمصالح المتوافَق عليها بين القوى العظمى، دون سواها من الدول، بمن فيهم الحلفاء الصغار.
وقد ساعد على ذلك وجود نظام سياسي حليف للمنتصرين، سواء في آسيا أو في إفريقيا فضلا عن أوروبا، التي تعتبر الصدى الطبيعي للرأسمالية. وما بقي من نُظُم سياسية موالية للشرق المنهار، بدأت تقضمها الانقلابات والثورات البرتقالية المدعومة من الغرب.
لذا فإن منطق الصراع الذي تفرضه السياسات الإقليمية والدولية لم يجد أذرعا نَشِطة (ومُحتدّة) لكي تقوم بمهام المناجزة وتكسير العظام، ثم تحويل الخصومة إلى نصر أو هزيمة، ثم إبراز النتائج على شكل ظروف سياسية ناظمة لمرحلة السِلم أو الهِدَانة.
فالجهات المناكِفة للغرب انحصرت في آحاد من الدول (إيران، سورية مثالا) بعد انهيار مشروع عبدالناصر في مصر وبومدين في الجزائر، ولاحقا البعث في العراق. ولم تعُد قادرة على إشعال معركة بحجم الخلاف المفتوح، فبدأت في اتباع سياسة الخصومة غير المباشرة عبر الأطراف، وعبر الاستقواء بالتناقضات، والظروف الدولية.
أما الحركات الدينية التقليدية، فقد كانت في أغلبها ناشِطة داخل أقاليم ومجتمعات محليّة. وكانت مطالبها مُحدّدة بإصلاحات سياسية أو عمليات جراحية على هوامش النظام، أو في أقصى الحالات أسلمة القوانين والنُظم القائمة، لكي تُحقّق مزيدا من الانسجام ما بين مشروعها وبين ما هو قائم.
وحتى الحركات الدينية (العامة) السابقة عندما ظَهَرَت كانت تحمل سمات ترابها، فحركة محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية، والسنوسيون والقادريون في شمال إفريقيا، والشّامليّون في القوقاز، كانت تربطهم بالأرض ظروف خاصة، منعتهم من التحوّل إلى ظاهرة عالمية، ولم تظهر حركات كُلّيّة مناهضة للسياسات الغربية، اللهم فقط ما كان يدور حول برامج حزب التحرير.
لذا فقد كان ظهور تنظيم القاعدة في العام 1998 هو تطور طبيعي أمام النماذج التقليدية للحركات الإسلامية. لقد أذِنَ ذلك لأن يتضخم ويتمدد التنظيم بالتوازي مع استيلاء المنتصرين في الحرب الباردة على حدود العالَم ومقدّراته وتحديد خياراته.
أعقب ذلك بروز الأفكار الداعمة له بشكل تأصيلي، والمتلائمة مع المُتخيّل الديني الذي بدأ يتبلور أمام انحطاط المشاريع القديمة، وقسوة المشاريع الغربية وجشعها، وبالخصوص الأميركية منها على الأراضي العربية والإسلامية.
لقد تخندق تنظيم القاعدة أمام شعار الدفاع عن الأمة وشعوبها التي اضطهدتهم القوى الامبريالية. فمثلما كانت كلمة مسيحي في أوروبا تُرادف كلمة الفلاّح المُستضعف، فإن كلمة مسلم أخذت تُوازي كلمة المقهور والمُصادَر للحقوق على مستوى الأنظمة المحلية والعالَم، وأصبح الدين (كما قال هوبزباوم) كالسماء التي لا يستطيع المرء الهرب منها.
لقد وصل الحال إلى ظهور أشبه ما يكون بـ «العدميّة» لدى هؤلاء تحت شعار مناهضة المشروع الأميركي (الإمبريالي). وكان ذلك الاستغراق في المناهضة قد حوّل الصراع (في أجزاء منه طبعا) إلى ابتذال مريع، على غرار ما جرى في ألمانيا وإيطاليا ضد حلفاء الحرب العالمية الأولى خلال عقدي العشرينيات والثلاثينيات.
لقد كان ذلك التطور في التفكير يحمل حالة طردية غريبة. فكلما زاد أُوار الصراع بين الجماعات الدينية (وبالتحديد القاعدة) والولايات المتحدة (والغرب عموما) انداحت أمام المنتمين إلى هذه الجماعات بساطة الإيمان بالمعركة. وهو ما وجدناه جليا (بالتراكم) بعد سقوط كابل، ثم بغداد، وتداعيات ذلك.
الأكثر من ذلك، فقد أصبحت المعركة تتحوّل (وبشكل آلي) إلى معركة أخلاقية بامتياز. فمثلما كانت تبريرات إرنست نولت للنازية بوصفها ردّ فعل على تهديد التوتاليتارية السوفياتية (راجع ما كتبه جورج قرم في ذلك) أصبح السلوك (القاعِدي) بكلّ ما فيه إلى ردّ فعل طبيعي ضد الجرائم الأميركية في المنطقة.
وأصبح قول برتراند راسل بأن «أقصى الآمال تولد من أقصى الشقاء» ينطبق على المنتمين لهذه الجماعات. فقد تحوّلت عملية الانتماء إلى «حالة مقدسة» تجترّ معها كل معاني الفضيلة، في ظلّ معركة دينية، أخلاقية، تسعى إلى حماية الدين والأخلاق المنهارة أو المنتَهَكَة.
كان ذلك من الأسباب الحقيقية لظهور مثل ذلك الاستقطاب من جانب «القاعدة» لأفراد غير عاديين، وأحيانا إلى استقطاب أفراد من خارج السياق المذهبي، كما جرى في خليّة العمارة قبل أشهر والموصل قبل أسابيع فقط.
بالتأكيد ليس الخطاب في تفصيلاته هو مَنْ يستقطب هؤلاء، وإنما أجواء المعركة وتخيّلاتها هي التي تفرض أحوالها على المُستقطَبِين. فالتفصيل لا يحمل أيّ تحفيز عقلي وشرعي للانتماء، وإنما العملية النفسية، وإرهاصات المعركة من تُحدّد. وهو في الحقيقة جوٌ من التفكير الجمعي النقص الذي لا يقوم على أصول واقعية.
في المحصلة، فإن الممارسات الأميركية الإمبريالية كانت سببا وجيها لأن لا تخبو ظواهر الانتشاء بضرورة النصر وإبعاد الهزيمة على الأمة لدى هؤلاء، وأصبحت السياسة سببا رئيسا في أن يُتاخم الدين البراغماتية السلفية التي لم تعُد تقتنع بالأمّة الوسط بقدر اقتناعها بالأمة المُنتهَكَة الحقوق، والواجبة أن تثور لاسترداد ما ضاعَ وسُلِب، رغم تأكيدنا أن كلّ ذلك لا يُشرعِن أبدا جنون البعض في المعركة حتى ولو كانت باسم الدفاع عن الأمّة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2717 - الجمعة 12 فبراير 2010م الموافق 28 صفر 1431هـ
تعليق
يقول نجل بن لادن واسمه عمر في مقابلة صحفية بان والده اسامه شخص لطيف مقارنة مع رفاقه!!كيف يكون لطيف من يرى قتل الناس حلال؟؟؟
مقال موفق وقوووووووي
رغم الارهاب الذي يمارسه هذا التنظيم
رغم الارهاب الذي يمارسه هذا التنظيم نرى من يصدق شعاراته في معاداة امريكا واسرائيل