مؤشرات كثيرة بدأت تتجمع في العراق عشية الانتخابات النيابية لاختيار السلطة التشريعية. المؤشرات مخيفة لأنها تنذر باحتمال عودة بلاد الرافدين إلى دائرة الاقتتال الأهلي والتمزق الطائفي/ المذهبي بسبب قرارات سياسية تعطل إمكانات نجاح عملية التحول السلمي ونهوض الدولة.
الكلام عن انقسام العراق إلى دويلات ثلاث، الذي بدأ يتردد في المجاميع السياسية التي تتنافس في معركة الانتخابات، ليس تهويلا وإنما يعكس مخاوف مرحلة الانتقال من حقبة تقاسم الغنيمة (المحاصصة الطائفية) إلى حقبة احتكار الغنيمة (الانفراد بالسلطة). والانتقال من طور المشاركة إلى طور الهيمنة يعطي فكرة عن الوقائع التي أحدثها الاحتلال الأميركي منذ سقوط بغداد في العام 2003 وأدت إلى تحطيم الدولة وفتح قنوات الاصطراع الأهلي على مجهولات لا يعرف أين ستستقر في الفترة المقبلة.
الاختلاف الحاصل الآن بين القوى المتنافسة على مقاعد البرلمان يقوم بين مجموعات توافقت على دستور أشرف الاحتلال على صوغ فقراته ودخلت عن قناعة ايديولوجية بالعملية السلمية التي حددت واشنطن أطرها القانونية وشروطها السياسية. فالاختلاف ليس بين فريق قابل بالاحتلال وآخر معارض له، وإنما بين مجموعات استفادت من الانهيار العام للبلاد وأخذت حصتها من تقوض الدولة وانتشار الفوضى.
المشكلة أصبحت الآن في مكان آخر، وهذا يعني أن مداخلها ومخارجها ستكون أصعب لكونها قد تترافق مع تموضع قوات الاحتلال والبدء في انسحابها من بلاد الرافدين ضمن جدول زمني توافقت عليه واشنطن مع القوى السياسية الحالية التي تدير السلطة. وحصول الانسحاب في لحظة انتقالية تجمع بين انتخابات «ديمقراطية» وطور التنافس على كسب حصة أكبر توازي الاحتكار يكشف فعلا عن مخاطر دخول العراق في حقبة غير مستقرة قد تفتح الباب للعودة مجددا إلى اقتتال أهلي يهدد العراق بالتمزق وتشطيره إلى دويلات طوائف ومذاهب ارتسمت حدودها السياسية منذ العام 2006.
احتمال انفجار بلاد الرافدين يطرح إشكالية عن معنى «الديمقراطية» في بلدان متخلفة في نموها الاجتماعي ولم تتقدم إلى موقع يؤهلها لتقبل فكرة سياسية تم إنزالها بالمظلات الأميركية واستوردت مع دبابات الاحتلال. فهذه المعضلة تكشف أحيانا عن المخاطر التي تنجم عادة عن ذلك التفاوت بين الفكرة والواقع.
الفكرة «الديمقراطية» جميلة وهي ابتكرت حتى تشكل القناة التاريخية لمنع التصادمات الأهلية وتحويلها إلى مجموعات سياسية تتقبل وجود الآخر حتى لو اختلف «الآخر» معها في اللون والدين والثقافة. فالآخر موجود والديمقراطية تعترف به ولا تلغيه وله حق التنافس مهما كان اعتراضه على السلطة وطبيعتها.
المعضلة في البلدان المتخلفة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا أن الفكرة «الجميلة» تتحول إلى قناة إلغاء ووسيلة اجتثاث وعدم قبول الآخر... وبالتالي تتكيف مع الواقع وتنقلب على معناها السياسي (التنوع، التعايش، والتداول).
ما يحصل في العراق عشية الانتخابات ليس غريبا في بلدان لم تتطور إلى درجة من التقدم يسمح للقوى أن تتقبل بعضها وتتنافس سلما على السلطة.
الواقع في النهاية أقوى من الفكرة «الجميلة» وهو يمتلك أدوات الانقلاب ويسيطر على آليات إنتاج السياسة ويعيد ترتيب «الديمقراطية» في الإطار الهندسي الذي يتناسب مع تكوينه التاريخي (الاجتماعي - الثقافي) وتشكيلته الديموغرافية/ السكانية.
الديمقراطية في بلد قبلي تتحول إلى ديمقراطية قبائل (أفغانستان أو اليمن مثلا). والديمقراطية في بلد طائفي تتحول إلى ديمقراطية طوائف (لبنان مثلا). والديمقراطية في بلد مختلط في أقاليمه وألوانه وجغرافيته تتحول إلى خلطة من المركبات الكيماوية كما هو حاصل في السودان أو الصومال. والديمقراطية في بلد أقوامي/ مذهبي/ قبلي تتحول إلى منظومة من العلائق الدستورية المتخلفة كما يتمظهر المشهد السياسي الآن في العراق.
الفكرة الديمقراطية كما بدأت تتجلى في التجارب المرئية أخذت تتكيف مع الواقع ولم تنجح في تغييره. فالواقع الموروث تاريخيا عن حقبات سابقة يبدو أنه الطرف الأقوى في معادلة الصراع بسبب امتلاكه عناصر قوة قادرة على تعديل الأفكار وكسر نمطيتها وإعادة تكييفها مع الشروط التي تناسبه بغض النظر عن مدى عدم تطابقها مع جوهر المبدأ.
يبقى السؤال المحير المطلوب الإجابة عنه. هل الولايات المتحدة حين قررت اجتياح المنطقة العربية - الإسلامية في عهد جورج بوش لم تكن تدرك الواقع ولم تطلع على ظروفه وشروطه وإنها اكتشفت الخطأ بعد أن ارتكبته، أم أنها كانت تعرف وهي خططت سلفا لدفع المنطقة إلى فوضى دائمة واقتتال أهلي يعطل إمكانات نهوضها وتقدمها التاريخي إلى طور الدولة؟
سؤال طويل ولكنه محير. فإذا كانت واشنطن لا تعرف قبل الاحتلال فهذه كارثة وإذا كانت على علم وبينة فهذه كارثة أعظم. الوقائع الميدانية تؤشر إلى أن خطة التقويض كانت جزءا من استراتيجية الاحتلال مهما حاولت الإدارة التهرب من الإجابة. ونائب الرئيس الأميركي جون بايدن الذي زار بغداد بعد نشوب الاختلاف وظهور منطق الاجتثاث بذريعة أنه مهتم بنجاح العملية السياسية والانتقال السلمي للسلطة يحمل وجهة نظر خطيرة أكدها مرارا حين كان عضوا في الكونغرس وهي ببساطة تؤيد فكرة انقسام العراق إلى دويلات ثلاث.
الخلاصة التي يمكن استنتاجها تذهب إلى فرضية أن ما يحصل في العراق الآن ليس بعيدا عن الاستراتيجية الأميركية وأهدافها المضمرة وعلى رأسها إعادة رسم خريطة «الشرق الأوسط» السياسية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2717 - الجمعة 12 فبراير 2010م الموافق 28 صفر 1431هـ
دع عنك من جاء بالامريكان
ارجو ان تهضمو من يحكم العراق اليوم ولابد من نسيان الامس البعثي انتهى بدون رجعه...ابناء كربلا والنجف اجدر وامكن من الكل فهم الاولى بحكم العراق...
للتصحيح :البعث ليست مرادفة "السنة"
اجتثاث البعث لا يعني اجثاث الطغيان و القائمة الممنوعة من دخول الانتخابات غالبيتها من الشيعة و لكن من في قلبه مرض يحور الامور ابتغاء الفتنة .
صالح المطلك و العاني لهذه الحظة لا يعترفون بعلم بلادهم و يتمسكون بعلم البعث المخطوط عليها الله نجمة اكبر و لهذه اللحظة لا يعترفون بشرعية الحكومات السابقة و الحالية فكيف يؤمنون بالديمقراطية. هاذان و الزمرة البعثية التي تقاتل لدخول العملية السياسية للاختراق وليس للمشاركة كانوا يكفرون بالعملية الديمقراطية و يرفون شعار لا انتخابات في ظل الاحتلال فمالذي تغير؟
نصائحكم يا أعلاميين!
اذن ما هي نصائحك أيها الكريم لكي نحافظ على منطقتنا آمنة ومستقرة ومتحضرة؟
التطبيق العملي لصراع الحضارات والفوضى الخلاقة
نعم يأ أستاذ وليد، إنه التطبيق العملي لصراع الحضارات، و الفوضى الخلاقة، للإنتهاء من العرب و المسلمين ككيان مؤثر.