أثارت فلسفة ابن عربي الصوفية ردود فعل متباينة ساهمت لاحقا في انقسام العلماء والفقهاء والشيوخ على توصيف علومه وتقديرها وتقييمها بين مؤيد ومعارض وشامت.
الشيخ ابن تيميه (توفي 728 هـ/ 1328 م) عارضها وانتقدها بقسوة في كتابه «إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها» إذ اتهم أصحاب التجلي بالقول بوحدة الوجود، فهم يتحدثون عن شيئين ويظنون أنهم يتحدثون عن شيء واحد. فالوجود كما أكد الأئمة والعلماء والفقهاء متباين أو على مراتب والوجود الحق مباين للمخلوقات. ويهاجم ابن عربي ويرى في كلامه تناقضات وفقرات مجملة (مبهمة) لأن مراده في النهاية قول «الوحدة والحلول والاتحاد» فهو «لا يرضى بالحلول، ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل، لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود، فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده، وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا، لكنه هو مذهبه المتناقض في نفسه». (ص 57).
ينطلق ابن تيميه من قاعدة واضحة ترفض «الجمع بين النقيضين في الاعتقاد (...). والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى (...) وأنهم يقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين (...) ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة» (ص 61). وأصل السفسطة عندهم «أنهم أصحاب خيال وأوهام يتخيلون في نفوسهم أمورا يتخيلونها ويتوهمونها فيظنونها ثابتة في الخارج، وإنما هي من خيالاتهم، والخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له» (62).
ويرد على فكرة «المرآة» وانعكاساتها ومن ينظر إلى ذاته فيها «لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته، لا أن آدم هو ذاته، ولا مثال ذاته ولا ذاته (...) فليس هناك مظهر مغاير للظاهر، ولا مرآة مغايرة للرائي» (ص 70-71).
من جانبه وضع الفيلسوف ابن خلدون (توفي 808 هـ/ 1406 م) مجموعة ملاحظات على نظريات ابن عربي وأصحابه من أهل التصوف (التجلي والمكاشفة والمشاهدة) في الكتاب المنسوب إليه «شفاء السائل»، منتقدا مسألة «البرزخ» بإيجاز يشرح فيه وجهة نظر «أصحاب التجلي» ويرى أنها تتطابق مع آراء الفلاسفة «من غير برهان يشهد له، ولا دليل يقوم عليه» (صفحة 111). فأصحاب التجلي يرتبون صدور الموجودات عن الواجب الحق وهي «الوحدة». والوحدة نشأت عنها الأحدية والواحدية، ونسبة الواحدية إلى الأحدية هي نسبة الظاهر إلى الباطن، فهي مظهر للأحدية بمنزلة المظهر للمتجلي «أعني اعتبار الباطن وتوحده عن الكثرة، واعتبار الظاهر وتكثره» (ص 108).
وبرأي أصحاب التجلي أن أول مراتب الظهور «ظهوره لنفسه» وأول التجليات «تجلي الذات الأقدس على نفسه». وتضمن التجلي «إفاضة الإيجاد والظهور» وتنقسم إلى «كمال وحداني» و»كمال إسمائي». وحصلت تلك الكثرة «دفعة واحدة» وهي «البرزخ الجامع لتلك الأفراد المنفصلة». وهي عندهم «عالم المعاني والحضرة العمائية وهي الحقيقة المحمدية» ومن أعيان كثرتها القلم واللوح والطبيعة والجسم. وتشتمل الحضرة العمائية (العماء) على الحقائق «السبعة الإسمائية» التي هي الصفات، وأوعبها «حقيقة الحياة» ثم تأتي حقائق الأنبياء والرسل ثم «الكمَّل من المحمديين الذين هم الأقطاب» (ص 109).
وتتفرع من الحقائق المذكورة (الأبدال السبعة) حقائق أخرى وتترتب على أنواع حتى تنتهي «إلى عالم الحس والشهادة» وهو «عالم الفتق» وأول حضرة بعد «العمائية» هي «الحضرة الهبائية» ثم العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. وهي كلها منسوبة إلى الحق مجموعة بالذات «البرزخية» على تفاصيلها ومظاهرها المتمثلة في «عالم الفتق». فالبرزخ يجمع ويفصل بين الرتق (إجمال المادة الروحانية) والفتق (تفصيل المادة المطلقة بصورها النوعية) (ص 110).
ينتهي ابن خلدون إلى عرض آراء «أصحاب الوحدة» وقراءة أسرار الحروف (نارية، هوائية، مائية، ترابية) والأعداد والطلمسات عندهم وقانونهم الصناعي الذي يسمونه «التكسير» (ص 112). ويرد على تفاصيلهم الكثيرة وعباراتهم المبهمة واصطلاحاتهم الشاردة ويرى أن ترتيبهم للوجود «قريب من ترتيب الفلاسفة» من دون أن يرقى منهجهم إلى مستوى الفلاسفة البرهاني والكسبي. (من كتاب «شفاء السائل» المنسوب إليه).
في المطاف الأخير انتهت رحلة الفلسفة الإسلامية إلى طور مأسوي بعد اجتهادات بدأت في نهاية الحقبة الأموية ومطلع العصر العباسي وصولا إلى سقوط قرطبة واضمحلال الحضارة الإسلامية في الأندلس (إسبانيا).
بعد هذه الرحلة الطويلة (ثمانية قرون) سيبدأ طور صعود النهضة في أوروبا وانتقال فلسفة ابن رشد إلى جامعاتها وأديرتها بينما سيبدأ هبوط النهضة في العالم الإسلامي بعد سقوط بغداد واجتياحها من قبل المغول (هولاكو) وما أعقب الكارثة من انهيارات وانقسامات وضياع الهوية الجامعة والعاصمة المركزية.
استمرت الفلسفة بعد غياب ابن رشد ورحيل ابن عربي إلا أنها ستأخذ مجراها الخاص والمستقل عن تأثيرات الفكر الإغريقي اليوناني القديم وستعيد تأسيس منظومتها المعرفية في إطار سياسي شهد الكثير من الاضطرابات العمرانية والعواصف الأهلية ما عطل إمكانات التلازم بين النهضة الفكرية والتراجع الحضاري في سياق التضاد الدولي والسباق الزمني. وفي هذا الموضوع يقول الباحث مارسيل بارجوني - هورو في كتابه عن ديكارت «إن العرب كانوا، منذ نهاية العصر القديم إلى عصر النهضة، المؤتمنين على الفكر القديم. كما أنهم لم يكتفوا بدور المترجمين والشارحين، بل بنوا بسرعة فلسفة أصيلة علمية في أكثر من جانب، ومادية غالبا. في القرن الثاني عشر كان لإسبانيا المسلمة جمهرة من الفلاسفة، وكان ابن رشد، الذي يسميه الغربيون Averroes الأشهر بينهم والأكثر جسارة. لقد استعاد ترجمات أرسطو وقام بتفسير جديد لها واستخرج فلسفة طبيعية مرتكزة إلى العقل الذي جعله متعارضا مع معتقدات الإيمان. إنها موضوعة الحقيقة المزدوجة (يقصد التوفيق بين الشريعة والحكمة). وقد كان للإبن رشدية، رغم منعها من قبل الديانتين الإسلامية والكاثوليكية، نفوذ كبير في كل العالم الغربي، خصوصا في إيطاليا حيث تبنتها مدرسة (جامعة) بادو Padoue، وفي فرنسا حيث كان لها معتنقون كثيرون.
أثرت الفلسفة العقلانية العربية، بواسطة هؤلاء المفكرين، على الحركة الإيديولوجية لعصر النهضة. وفي الوقت نفسه، أثرت هذه الفلسفة على الفلسفة اليهودية تأثيرا مباشرا (يقصد الفقيه اليهودي الفيلسوف ابن ميمون) وعبرها على واحد من أكثر مفكري القرن السابع عشر جرأة، سبينوزا (فيلسوف هولندي من أسرة يهودية درس ابن ميمون الذي تأثر بدوره بفلسفة ابن رشد والفقه الإسلامي). حتى أنه يمكننا القول بلا مبالغة أن الفلسفة العربية شقت الطريق أمام الفكر الحديث داخل الفكر الوسيطي (يقصد في أوروبا) نفسه» (ص 82-83).
في الاتجاه نفسه اشار فريدريك انغلز (صديق كارل ماركس) في مقدمة كتابه في الرد على المفكر الألماني يوغين دوهرنغ إلى دور العرب في تطوير العلوم الطبيعية، وبرأيه «لم تتطور مبادئ البحث الدقيق للطبيعة إلا عند يونانيي عصر الإسكندرية. ثم بعد ذلك في القرون الوسطى عند العرب. ولم يبدأ العلم الطبيعي الحقيقي إلا في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، ومنذ ذلك الوقت وهو يتقدم بسرعة متعاظمة أبدا». (انغلز، ضد دوهرنغ، ص 26).
نهايتان إذا. واحدة أخذت ابن رشد والفلسفة والفقه الإسلامي والعلوم الطبيعية باتجاه الغرب (أوروبا) وبدأت بإعادة هيكلة ذلك الفائض من الإنتاج الفلسفي - العلمي - الفقهي في سياق تطوري ترافق مع الاكتشافات الجغرافية والعلمية والطبية والاختراعات التقنية منذ القرن الخامس عشر، وأخرى انكفأت على الذات وتراجعت عمرانيا منذ القرن السادس عشر ولم تنجح في استعادة التوازن المفقود ما أدى لاحقا إلى حالات من الانكسار التاريخي والضمور السياسي التدرجي.
تراجع الحضارة الإسلامية في الأندلس لم ينطلق بداية من تفوق الحضارة الأوروبية. آنذاك كان العرب في المقدمة والهزيمة العسكرية لا تعني تفوق الغالب على المغلوب حضاريا وإنما انتفاء الوظيفة التاريخية للسلطة السياسية ودورها في إعادة صنع التاريخ. فالممالك الإسلامية دخلت في القرن الرابع عشر طور الضمور والانقسام في الأندلس ما أتاح للقبائل الإفرنجية فرصة التوحد والهجوم على طرف فقد الاستعداد للتضحية دفاعا عن تراث موروث.
ابن خلدون لاحظ لاحقا هذه المفارقة، كذلك انغلز (الماركسي) كرر مقولة ابن خلدون في رده العنيف على الفيلسوف الألماني دوهرنغ بشأن مسألة «العنف قابلة التاريخ». انغلز أشار في محاججته في نهاية القرن التاسع عشر إلى الأمر بالنص الآتي: «هذا ما فعله المسيحيون، مثلا، في الأندلس، للقسم الأكبر من مشاريع الري التي بناها العرب وأمنت لهم حقول القمح والبساتين الزاهرة. وفي كل مرة يكون فيها الغازي شعبا أقل حضارة يجري بالطبع إخلالا بسير التطور الاقتصادي وتتعرض القوى المنتجة الواسعة للتلف. إلا أن الغازي الأقل تحضرا يضطر خلال الغزو الطويل الأمد إلى التكيف في الغالبية الهائلة من الحالات إلى «الوضع الاقتصادي» الأرقى في البلد المحتل بالشكل الذي هو عليه بعد الاحتلال. فالغازي يذوب في الشعب المغلوب ويضطر في أغلب الأحوال إلى استيعاب حتى لغته». (انغلز ص 214).
هذا ما حصل في الأندلس. فالغازي الأوروبي لم يأخذ اللغة العربية وإنما استوعب الميراث الحضاري للعرب والإسلام وقام بترجمته إلى اللاتينية واللغات الأوروبية لتشهد القارة لاحقا وبعد تعديلات وتطويرات متراكمة تلك الطفرة الحضارية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2716 - الخميس 11 فبراير 2010م الموافق 27 صفر 1431هـ