باختصار شديد فإن لب «التجارة العادلة»، وجوهر أهدافها هو التوصل إلى علاقة عادلة متوازنة بين من يقوم بعملية الإنتاج، بغض النظر عن النشاط الاقتصادي الذي يمارسه، رعويا كان أم زراعيا أم صناعيا، بل وحتى لو كان خدماتيا، وبين الجهة النهائية المستهلكة لذلك المنتج، دولة كانت أم مجموعة من الأفراد. وإذا ما أخذنا النفط كسلعة تنتجها الدول العربية وتستهلك نسبة عالية منها الدول الصناعية الكبرى، فسوف نكتشف، وبسهولة متناهية، مدى الغبن الذي تلحقه علاقات السوق النفطية القائمة حاليا بالدول العربية المنتجة للنفط لصالح الاحتكارات العالمية أول، أو حكومات تلك الدول الصناعية المستهلكة ثانيا.
لسنا بحاجة للعودة إلى تاريخ العلاقات السياسية، وخاصة في منطقة الخليج العربي عندما كانت معاهدات النفط غير العادلة، والتي يصل مستوى عدم عدالتها إلى فرض أشكال من العبودية، تقف وراء تنظيم العلاقة بين الأطراف الثلاثة: الدول المنتجة، الاحتكارات النفطية، الدول الاستعمارية المدافعة عن أطماع تلك الاحتكارات. حينها كانت دولة مثل بريطانيا ترغم بعض حكام دول منتجة للنفط في الخليج بأن «يلزم (الحاكم) نفسه ووارثيه وخلفه في الحكم بأن لا يتنازل أو بيع أو يؤجر أو يرهن أو يعطي للاستغلال لأي غرض كان أي جزء من مقاطعته (ذلك يشمل النفط بطبيعة الحال) لأي حكومة أو رعايا أي سلطة بدون الموافقة السابقة لهذه الأغراض من حكومة صاحبة الجلالة». حينها أيضا كانت الدول المنتجة، صاحبة الحق، وبموجب اتفاقيات استرقاقية مشابهة، لم يكن بوسعها أن تحصل سوى على ما لا يزيد على نصف دولار أميركي، دون أن يكون لها كلمة في تحديد أسعار نفطها أو الجهة التي تذهب لها تلك النفط.
وليس الحال الذي نحن فيه اليوم بأحسن مما كنا عليه في البارحة، إذ أن عمليات النهب لم تتوقف، وما تزال مستمرة حتى يومنا هذا، لكن بأشكال أكثر التواء وأشد تعقيدا عما كانت عليه في السابق. فعلى مستوى الشركات الاحتكارية بينت دراسة أعدها مدير الإدارة الاقتصادية في منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط (أوابك) أن «أرباح الشركات النفطية الكبرى في الفترة من 2002 - 2006 بلغت حوالي 5.503 تريليون دولار؛ أي ما يمثل نحو 5 أضعاف ما حققته الأقطار الأعضاء في (أوابك) خلال ذات الفترة، والبالغ 1.205 تريليون دولار».
وكذا الأمر بالنسبة بالنسبة للدول الصناعية الكبرى، حيث بلغت، حسب الدراسة ذاتها، «عائدات الدول الصناعية السبع من الضرائب على المشتقات النفطية - في الفترة نفسها - حوالي 2310 مليارات دولار؛ أي ضعف دخل الأقطار الأعضاء في (أوابك). في حين لم يتجاوز «المعدل السنوي للعائدات النفطية للأقطار الأعضاء في (أوابك) للفترة نفسها من 2002 إلى 2006 أكثر من 241 مليار دولار»، مقابل أرباح للدول السبع الصناعية بفضل الضرائب على المشتقات النفطية وصلت إلى «حوالي 460 مليار دولار؛ أي ما يمثل ضعفي مستوى دول أوابك».
وفي السياق ذاته، وفي العام الماضي وحده، وبينما كانت أصوات الدول الصناعية تعلو مستغيثة من آلام الأزمة المالية التي عصفت بهيكل بنيتها الاقتصادية، يرافقها أنين عشرات الشركات المرموقة وهي تعلن إفلاسها، كانت أكبر خمس شركات نفط على مستوى العالم تجني أرباحا صافية – خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2008 «بلغت قيمتها 125 مليار دولار». وقد نجحت الشركات التي تحمل الجنسيات الأميركية والهولندية والبريطانية والفرنسية من «تجاوز سقف أرباح صافية قدرها 125 مليار دولار منذ مطلع العام 2008 وحتى سبتمبر / أيلول من العام ذاته».
وتعطينا الأرقام التالية، التي تناقلتها وسائل الإعلام فكرة صحيحة ووافية عن الأرباح التي حققتها كل شركة من تلك الاحتكارت النفطية على حدة خلال العام 2008، إبان الأزمة العالمية المالية الأخيرة، حيث «قفزت أرباح شركة توتال الفرنسية بنسبة %35 في الربع الثالث من ذلك العام بفضل ارتفاع أسعار النفط الخام خلال صيف ذلك العام». كما نجحت شركة رويال دتش شل «من تحقيق صافي ربح قدره 10,9 مليارات دولار في الربع الثالث من العام 2008 ليبلغ صافي الربح على مدار الأشهر التسعة الأولى من ذلك العام 26,58 مليار دولار بزيادة قدرها 27% عن الفترة المناظرة من العام الذي سبقه».
تشاركنا في تسليط الضوء على أشكال النهب غير العادل الذي تمارسه الشركات الاحتكارية ومن ورائها دولها الصناعية الكبرى مصادر أميركية أكاديمية غربية. إذ تكشف دراسة أعدها أستاذ الاقتصاد بجامعة بوسطن روبرت كوفمان حصص كل طرف من سعر برميل النفط عندما يصل إلى يد المستهلك الأخير في تلك الدول. فبينما لا يزيد - كما تقول الدراسة - «نصيب دول منظمة أوبك من سعر غالون البنزين أو الغازولين عن 13.38% في أحسن الحالات»، تنعم الحكومات والاحتكارات في دول الغرب بحصة الأسد، «إذ تفرض فرنسا ضريبة بحدود 76% وألمانيا 74% وإيطاليا 70%، والبرازيل 65%، واليابان 53%، وتفرض الولايات المتحدة 30% على الغازولين و40% على الديزل، وفي الصين لا تتجاوز الضريبة 17%.
وفي نطاق المصادر الغربية، نجد من يقف في قمة السكة السياسية من مستوى الرئيس الأميركي باراك أوباما، يؤكد وهو يخوض حملته الانتخابية أنه «يؤيد فرض رسوم على أرباح الشركات النفطية وأن سعر البنزين يشكل مصدر قلق بالنسبة للأميركيين الأغنياء لكنه مشكلة كبيرة تتحول إلى أزمة بالنسبة لأغلبية الأميركيين، معربا، عن رغبته في فرض رسم على الأرباح التي تحققها الشركات النفطية، داعيا إلى المزيد من الشفافية حول طريقة تحديد الأسعار للمستهلكين، مشيرا إلى ضرورة خفض الضرائب للطبقات المتوسطة بما يسمح لها بتوفير ما يصل إلى ألف دولار سنويا وكذلك تعزيز إجراءات تؤدي إلى وقف هدر الطاقة».
ولا يبقى بعد ذلك إلا أن يتحرك العرب، كما تحرك آخرون في حقل النفط أو القهوة أو منتجات أخرى كثيرة، من أجل تحقيق شكل أفضل من أشكال العدالة في أسواق النفط التي ماتزال قوانينها المجحفة بحقهم تؤكد ضرورة تعزيز نظام «التجارة العادلة» القائم.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2715 - الأربعاء 10 فبراير 2010م الموافق 26 صفر 1431هـ