وردت في الكلمة التي وجهها عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة إلى السلطة التنفيذية، عند ترؤسه اجتماع مجلس الوزراء مجموعة من الإشارات التي تستحق التوقف عندها وقراءة انعكاساتها على مسيرة العمل الوطني الديمقراطي خلال الفترة المقبلة. وتنبع أهمية هذه الكلمة من عدة مصادر يمكن تلخيص أهمها في النقاط التالية:
1. الجهة، قمرسلها يتبوأ قمة أعلى سلطة يحق لها صنع القرار في المملكة، وبالتالي فليس هناك من جهة رسمية، من شأنها، أو في وسعها وضع العراقيل في وجه القضايا التي دعت هذه الجهة الجميع للقيام بها. إذ يقف من تخول له نفسه ذلك، وجها لوجه أمام تلك السلطة، ويسير، وبقرار ذاتي منه، في اتجاه معاكس لها.
2. الوضوح، فقد كانت الكلمة صريحة وواضحة ومباشرة وغير قابلة للتأويل، إلا لمن يجد فيما أتت به تهديدا لمصالحه ونفوذه اللذين أقام أعمدتهما على مواد قوانين أمن الدولة، أو سلوكيات عهد ما قبل مرحلة الإصلاح السياسي.
3. المكان، فجلالته يلقيها في مجلس الوزراء، أي في عقر دار السلطة التننفيذية، بدلا من توجيهها، مذاعة، أو متلفزة. هذا يعني أنها دعوة صريحة تحمل توجيهات لكل فرد أو إدارة في هذه السلطة التنفيذية، أن يبادر لترجمة ما ورد في الكلمة إلى إجراء قابل للتنفيذ السريع بدلا من التسويف غير المبرر، أو الاجتهاد المبطئ، غير القادر على، أو بالأحرى غير الراغب في، استيعاب المرامي الإيجابية التي تناولتها الكلمة، إلا لمن أراد أن يدخل بها دهاليز المماطلة.
4. الزمان، فهي تأتي في مرحلة انتهاء دورة 2006 البرلمانية، وولوج البلاد مرحلة الاستعداد لانتخابات برلمان 2010، الأمر الذي يضع بيد القوى الوطنية الصادقة التي تعمل في أروقة العمل السياسي ورقة رابحة يمكن الاستفادة منها في ترسيخ أسس العملية الديمقراطية بآليات تطويرية سلمية، وإضاءات باهرة تعمي من يحاول أن يبقي طريق الإصلاح معتما كي تقرض أوراقه الإصلاحية جرذان مستنقعات قانون أمن الدولة، كي تتلفها، أو تشوه معالم ذلك الطريق، إن تمكنت من ذلك.
على هذه الأرضية ننتقل إلى ما ورد في تلك الكلمة من إشارات تستحق التوقف عندها وقراءتها بتمعن، وشكل صحيح، في ضوء العناصر المهمة المشار إليها أعلاه.
1. الموضوع، ففيها تجديد واضح لروح المشروع الإصلاحي، وتحذير مباشر لمحاولات أيدي الحرس القديم، أو من انضمت لأفراده من الطواقم الجديدة بلبوس مختلفة، بالكف عن تشويه المشروع أو حرفه عن جادته الصحيحة، من خلال التلاعب في أساليب نقله من أطره النظرية إلى ممارساته العملية. نلمس ذلك عند دعوة جلالته «إلى تعميق دور الشراكة الشعبية في القرار الحكومي وبأهمية أن يكون المواطن حاضرا دائما برأيٍ في القرارات التي تمس مصلحته، وهذا يتطلب من الوزراء كل في موقعه مد جسور التواصل مع النخب الوطنية والمواطنين». ويضيف جلالته بعد ذلك مصرا على «ماسسة» تلك المشاركة من خلال إشارته إلى ضرورة «التعاون القائم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وأهمية هذا التعاون للولوج إلى المستقبل بتفاؤل نحو تعاظم الإنجاز الوطني». فليس هناك مدخل أفضل لتأطير أسس التحول إلى مملكة دستورية من تجسيد روح المشاركة التي يكون للمواطن حضورا مؤثرا فيها، معززا بسلطة تشريعية كفؤة ترقى بتلك المشاركة من حيزها الفردي الضيق إلى فضائها المؤسساتي الرحب.
2. القنوات، فليست الصدفة المحضة هي التي دفعت جلالته إلى المزج التكاملي الإيجابي بين تشجيع البحرين على «تصدير المعرفة والحضارة الإنسانية»، معتمدة في ذلك على «دور مؤسسات المجتمع المدني البحرينية باعتبارها أعمدة يرتكز عليها بناء البحرين الحضاري في مختلف المجالات ومنها حقوق الإنسان»، وبين القفزة التي «حققتها مملكة البحرين على الصعيد الحقوقي والإنساني وفي مجالات التنمية بقطاعاتها المختلفة الصناعية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والصحية». إذا هناك التفاتة استراتيجية نحو هذا الدور المتميز الذي يمكن أن تمارسه منظمات المجتمع المدني في التأصيل لعمليات صناعة المعرفة وتصديرها في نطاق حقوقي وتنموي إنساني مبدع.
قراءة متأنية لما جاء في كلمة جلالته، نجد أنها تشرع بوابة سياسية واسعة وواعدة أمام القطاع التجاري البحريني، دون إهمال أو تجاوز للفعاليات الاجتماعية الأخرى، كي يمارس، بصدق وفاعلية، دوره السياسي المطلوب في عملية التحول الإصلاحي التي تشهدها البحرين اليوم، ومنذ ما يقارب من عشر سنوات. فمن هي الفئة الأكثر أهلية اليوم من التجار كي تتصدى لمثل هذه المهمة التاريخية، إن شاءت هي ذلك؟
محصلة كلمة جلالته هي المزج البرغماتي القابل للتنفيذ، بين العمل السياسي في الأطر التي يبيحها الدستور، والتنمية الاقتصادية التي تحتاجها البلاد. على أن يتم ذلك من خلال إشراك المواطن ومؤسسات المجتمع الوطني، ودون استثناء للسلطة التشريعية، أو إقصاء للسلطة التنفيذية.
تجار البحرين، إن هم أرادوا ذلك، قادرون اليوم أكثر من أي وقت مضى، على قراءة ما جاءت به الكلمة، للولوج من بوابة المزج الواسعة هذه، والاستفادة من الفرصة التي تتيحها أمامهم، كي يعيدوا لأنفسهم مكانتهم السياسية التي فقدوها خلال السنوات المنصرمة، بفعل ظروف ليس هنا مجال الاستطراد فيها.
هذا الدور الذي نتحدث عنه، ليس شكلا من أشكال الإسقاط الطوباوي الذي يعبر عن تمنيات بعيدة عن الواقع، بقدر ما هو قراءة علمية صحيحة لخريطة القوى السياسية النشطة في البحرين اليوم، وعلاقتها بما ورد في تلك الكلمة. فسواء أدرك التجار أم لم يدركوا، فهم اليوم يمسكون بالكثير من الأوراق الرابحة في اللعبة السياسية القائمة، وليس عليهم أكثر من إتقان استخدام تلك الأوراق وتوقيت اللحظة المناسبة للكشف عنها.
كل ما هو المطلوب اليوم من تجار البحرين، بعد أن يتخذوا قرار الانخراط في العمل السياسي، أن يعيدوا النظر في تلك الأوراق، كي يختاروا الأفضل من بينها والأكثر قدرة على نقلهم من مواقعهم المهمشة التي يقبعون فيها، إلى مقاعد الفعل الإيجابي المؤثر التي يصرون على الهروب منها. فالتاجر هو أفضل من يتقن عملية المزج الصحيح بين المشروعات الاقتصادية الناجحة، والبرامج السياسية القابلة للتطبيق بشكل مثمر.
وطالما كانت غرفة تجارة وصناعة البحرين، كما تقول هي عن نفسها إنها «بيت التجار»، فمن الخطأ أن يتم إعداد هذا الدور بعيدا عن مسرحه الصحيح، وبالتالي، فمن الطبيعي أن يلجأ التجار إلى بيتهم كي يناقشوا تفاصيل هذا الدور، الذي ينبغي أن تكون غرفتهم، هي الأخرى، راغبة في القيام به ومستعدة لمساعدتهم على أدائه على الوجه الأفضل وبالنتائج التي تطرح الثمار الأفضل.
فما على التجار اليوم، وفي ضوء ما سمعوه في كلمة جلالته، سوى التوجه نحو «بيتهم»، الذي لا ينبغي عليه أكثر من فتح صدره قبل أبوابه أمامهم.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2713 - الإثنين 08 فبراير 2010م الموافق 24 صفر 1431هـ
رفقا بالهيكل العظمي للمواطن من ذوي الدخل المنحوس
رفقا بالهيكل العظمي للمواطن من ذوي الدخل المنحوس مع تحيات ( إبراهيم بوعمر الصنقيحي )