لا يمكن لأي محلل أو مراقب محايد للتطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط إلا أن يعبر عن إعجابه بالشعب الإسرائيلي ومثقفيه والمسئولين فيه ولعل ذلك مرجع ثلاثة اعتبارات.
الأول: إدارته بانتخابات حرة على مدى تاريخه وفي أحلك الظروف وأصعبها وهي حروبه مع الدول المجاورة ومع الفلسطينيين. وهذا يعكس إيمانا راسخا بالعمل الديمقراطي السياسي وتعويد الشعب والنخب السياسية والمثقفين على ذلك.
الثاني: مساحة الحرية وتعدد الآراء في المجتمع الإسرائيلي من دون أن يلجأ فريق إلى تخوين الآخرين واتهامهم بالعمالة، طبعا ينتقد مواقفهم ويتهمهم بالتقصير والإهمال والفساد والانحراف. وهذا النمط من العمل السياسي على العكس تماما مما يحدث في عالمنا العربي.
الثالث: الاتفاق المستمر على مشروع وطني لبناء الدولة وتوسعها على أسس سليمة، وهي بناء القوة العسكرية والتكنولوجيا والاقتصادية.
وعلى النقيض من ذلك نجد العالم العربي حيث تسود ظواهر ثلاث معاكسة تماما. فلا انتخابات حرة وإنما تزوير للانتخابات وتغيير للدساتير بما يحقق مصلحة السلطة الحاكمة. المثقفون مغيبون ويعانون في معظمهم من حالة من التخلف العقلي وغياب النهج العلمي في تفكيرهم فهم إما موالون تماما للسلطة وإما معارضون تماما لها، لا يرون الحياة والسياسة إلا من منظور ضيق هو للأبيض والأسود، ويرفضون نهج النقد العلمي والعقل النقدي مقابل سيطرة العقل الاستسلامي والفكر الغيبي. أما النخب السياسية فهي متصارعة فيما بينها ويعمل كل واحد لإفساد وإحباط مشروع الآخر فليس الهدف هو الوحدة والبناء والقوة وإنما الهدف تدمير الآخر وبيان خطئه وانحرافه وعمالته. خذ نموذج رد الفعل العربي على حوادث غزة فنجد الدول العربية انقسمت إلى فريقين، أحدهما يتهم الآخر بالعمالة لإيران أو العمالة للغرب. وشعب فلسطين انقسم إلى فريقين أحدهما يتهم الآخر بالعمالة لـ»إسرائيل» أو العمالة لإيران وكل فريق يسعى لإحباط جهود الآخر على المستوى الدولي والمستوى الإقليمي والتشهير على المستوى الداخلي.
ماذا نقول عن دلالات الانتخابات الإسرائيلية ونتائجها؟
الدلالة الأولى أن المجتمع الإسرائيلي يزداد توجها نحو التطرف ويتراجع مقابل ذلك التوجه السلمي أو المعتدل لديه. فسواء حزب كاديما (28 مقعدا) أو حزب الليكود (27 مقعدا) أو حزب «إسرائيل بيتنا» (15 مقعدا) أو حزب العمل أو حزب شاس أو غيرها تتفق جميعا على ضرورة استخدام اليد الغليظة في مواجهة الفلسطينيين سواء «فتح» أو «حماس» مع اختلاف في التكتيك وأساليب الخداع.
الدلالة الثانية: أن الفلسطينيين (أصحاب القضية) انقسموا وتشتتوا وتفرغوا للطعن في بعضهم بعضا والصراع على السلطة وأكدوا مجددا القانون الذي توصل له علماء السياسة منذ أمد بعيد أن الثورة تأكل أبناءها والمشكلة أن الثورة الفلسطينية تأكل أبناءها قبل أن تحقق أهدافها بخلاف الثورات الأخرى مثل ثورة الجزائر أو فيتنام أو إيران أو كوبا أو الثورة الفرنسية التي بنى عليها علماء السياسة التحليل العلمي للوصول للقانون السابق ذكره.
الدلالة الثالثة: وهي أن العرب على رغم كونهم أمة واحدة ذات رسالة خالدة كما عبر عن ذلك حزب البعث عند نشأته. أصبحوا أمما متفرقة كما عبر عن ذلك العلامة والمفكر الباكستاني محمد إقبال في عدة قصائد من قصائده أو الرسالة الخالدة فتحولت إلى مضمون مختلف وهو أنه يعمل كل نظام عربي على الطعن والإساءة البالغة ضد الأنظمة الأخرى والمحصلة أن الجميع يصبح ضعيفا وتابعا. ويرفض العرب وأنظمتهم التفكير العلمي كما ساد في دول العالم وعبر التاريخ أنه ينبغي أن يكون اتفاق الدول بمنطق قوة كل دولة وثقلها ووزنها الحقيقي الاقتصادي والعسكري والسياسي والثقافي. وليس على أساس دول الطوائف في الأندلس الذين حاربوا بعضهم بعضا وسمحوا للفرنجة يطردهم جميعا والفرنجو الجدد هم «إسرائيل» ودول الجوار العربي.
الدلالة الرابعة: أن العرب في تطاحنهم -وليس كما قال الرسول الكريم إن المؤمن للمؤمن كالبنيان- أصبحوا بنيانا متهالكا يسودهم مبدأ الخداع يقولون في مؤتمراتهم ما لا يضمرون، ولا ينفذون ما يقررون ويعلنون المصالحة في قمة الكويت ويعملون بعكسها، والفلسطينيون هم أسوأ نموذج للقادة العرب. يتناكفون وتطرح الأسئلة ويتحاورون وفلسطين وشعبها تموت رويدا رويدا كما كان أهل بيزنطة يتحاورون وروما تحترق -وأخفق مبادرات اليمن والسعودية ومصر وغيرها في حفزهم للوصول إلى كلمة سواء أو اتفاق صادق.
الدلالة الخامسة: أن الشعوب العربية - بما في ذلك الشعب الفلسطيني - أصبحوا أسرى شعارات بليغة جميلة وواقع متدهور بالغ السوء ولا أمل حقيقي للخروج من المأزق وتحقيق حلم الدولة الفلسطينية. لأن الأحلام ما أكثرها والأماني ما أصعب تحقيقها فالواقع يعمل عكس ذلك والجميع يساقون إلى حتفهم بظلفهم. وثروات العرب أصبحت نهبا للأعداء بشراء أسلحة لا تستخدم أو بتدهور في الأزمات المالية.
وترتب على حالة العرب البائسة أن علقوا آمالهم على غيرهم مطالبين الرئيس الأميركي أوباما بحل مشكلاتهم والأسوأ والأكثر عبثية أنهم هللوا للرئيس الفنزويلي والرئيس الإيراني أو رئيس الوزراء التركي وهؤلاء الرؤساء هم قادة لبلدانهم ومسئولون أمام شعوبهم وهم في ترديدهم لعبارات التأييد والمساندة للعرب إنما يعبرون عن سعيهم لتحقيق مصالحهم وليس لتحقيق مصالح العرب الذين قال شاعرهم:
ما حـــك جلـــدك غـــير ظفـــرك
فتـــولى أنـــت جميـــع أمــــرك
فلن يحضر رئيس فنزويلا بجيوشه ولا الرئيس الإيراني بصواريخه ولا الرئيس التركي بتحالفه الاستراتيجي مع «إسرائيل» لنجدة العرب ولكن بما أن العرب شعوبا ومثقفين يسودهم الفكر الغوغائي وينخدعون بالشعارات الرنانة فما هو الضرر لإرسال شحنة من تلك الشعارات إليهم لمزيد من الخداع حتى إذا أعلن موت العرب ودفنهم كما قال الشاعر المتميز نزار قباني سوف يتكالب الجيران الثلاثة لاقتسام الغنائم.
الدلالة السادسة: وهي دعوة نطرحها على إخوتنا وأشقائنا العرب حكاما ونخبا، سياسيين ومثقفين فليقرأوا التاريخ العربي وتاريخ العالم وصعود وهبوط الامبراطوريات عبر التاريخ وليدركوا أن السبيل للخروج من المأزق أو الكارثة الراهنة هو في الابتعاد عن منطلق المهاترات والصراعات على المصالح الضيقة والقطْرية للدول الصغيرة والكبيرة. وليدرسوا تجربة أوروبا في إعطاء كل دولة وزنها واستخدام المنهج النقدي للأحداث وفقا لما أعلن عنه الرسول الكريم (ص) أنصر أخاك ظالما أو مظلوما وعندما سئل عن كيفية نصرة ظالم قال لهم أن تكفوا يده عن الظلم. إن الشعب الفلسطيني وقياداته في حاجة لمن يرشدهم للعقلانية والسلوك السياسي الواقعي السليم وليس للشعارات والأحلام التي يتراجع تحقيقها يوما بعد يوم.
إن تفكيرا ساذجا لبعض المثقفين ساد منذ بضع سنوات عندما فجرت باكستان قنبلتها النووية وتصوروا أنها ستستخدمها ضد «إسرائيل» لمساعدة العرب والفلسطينيين ولكن على الفور أجاب رئيس وزراء باكستان آنذاك نواز شريف قائلا إنها لا تستخدم إلا لصالح الأمن الوطني لبلاده ونفى كونها قنبلة نووية إسلامية كما روجت الدعاية الهندية وانخدع بعض العرب بذلك ومازالوا مخدوعين. القنبلة النووية الإيرانية.
عندما يعلن عنها لن تستخدم لصالح العرب أو الفلسطينيين وإنما لصالح المشروع الوطني الإيراني. القنبلة النووية السوفياتية في الماضي لم تستخدم الدفاع عن الصين الشعبية المشتركة معها في الإيديولوجية، ولذلك اضطرت الصين لتفجير قنبلة خاصة بها. إلى متى يظل مثقفونا مخدوعين ويعمل على خداع الشعب بأحلام وردية. وإلى متى يظل السياسيون والقادة متفرقين ومنحشرين في طموحاتهم الضيقة، إن هذا كله بعض دلالات الانتخابات الإسرائيلية - لقد قال الزعيم المصري العربي جمال عبدالناصر بعد العام 1967 ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ولكن للأسف العرب أضاعوا قوتهم الحقيقية بأنفسهم وكل منهم دخل في صراع ضد الآخر لضيق الأفق وضيق الطموحات الوقتية والقطْرية في حين «إسرائيل» أصبحت في مقدمة دول العالم في بناء التكنولوجيا وفي نقد ذاتها وأدائها أما نحن فمن ينتقد أداء هذه الدولة أو تلك أو هذه المنظمة أو تلك يتهم بأبشع الاتهامات حتى يظل الجميع في حالة غياب للأبد.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2351 - الأربعاء 11 فبراير 2009م الموافق 15 صفر 1430هـ