من لا يشرب القهوة؟ قلة قليلة من الناس نصحها الاطباء بعدم تناولها لأسباب صحية تتعلق بالارق والاعصاب وأوجاع المعدة وغيرها، بينما الاكثرية الساحقة تشرب هذه المادة.
فالقهوة نجدها منتشرة في كل مكان وفي مختلف الزوايا وهي لا تقتصر على فئة معينة أو طبقة. فالكل مجمع تقريبا على شرب القهوة في المقاهي أو بيوت الفقراء أو قصور الاغنياء من دون خوف أو تردد.
هذا هو حال القهوة في أيامنا. الا ان حالها في زمن اسلافنا لم يكن كما هو أمرها اليوم. فالقهوة كانت آنذاك مدار جدل ونقاش عن مضارها وفوائدها وكذلك عن الجهات المستفيدة منها أو صاحبة مصلحة في توزيعها والاتجار بها. فالقهوة كانت موضوع سجال بين العلماء والفقهاء والشيوخ والقضاة، حتى حصل ما يشبه الانقسام عليها بين من رأى فيها مجرد شراب لاحرام فيه وبين من وجد فيها أشياء تدخل المنكرات ونصح بتجنبها.
وقبل ان تتحول القهوة إلى مادة للنقاش في الشرق دخل هذا الشراب الغريب ساحة الجدل السياسي - الفكري في أوروبا. فاوروبا سبقت الشرق في تحريم شرب القهوة لاسباب ايديولوجية تتعلق بالاقتصاد. آنذاك كانت تجارة الحبوب وتحديدا القهوة يسيطر عليها العرب. فالنبتة اكتشفت في المنطقة العربية وتحولت إلى سلعة عربية وتحولت مع الأيام إلى أهم بضاعة يحتكر انتاجها وتصديرها التجار العرب.
وبسبب هذه الخاصية دخلت مادة القهوة في سجالات سياسية (ايديولوجية) في الكثير من البلدان والمدن الاوروبية حين بدأت القهاوي تنتشر لتقدم هذا النوع من الشراب الغريب (الجديد).
ومثل كل مسألة جديدة اثارت القهوة أسئلة كثيرة وبدأت الاحاديث تدور حول «مؤامرة» عربية (اسلامية) ضد الغرب. وهدف المؤامرة المزعومة كما ذكرت بعض الادبيات هي افساد الجيل الشاب وتحويل انظاره ودفعه نحو الخمول والكسل والتهرب من العمل وتعويده على جلسات الانس و«السولفة» في المقاهي بدلا من الذهاب إلى المزارع والمشاغل.
انشغل بعض الغرب قبل اكثر من 200 سنة في البحث عن خيوط «المؤامرة» العربية (الإسلامية) وكتب الكثير عن اهداف تلك الخطة وغاياتها الجهنمية. وظهرت عشرات المقالات التي تحرض الشباب على مقاطعة القهوة (العربية) لانها مادة مضرة على الأمد الطويل ويراد من توزيعها والاتجار بها جر الجيل الشاب وافساده حتى يحقق العرب اهدافهم السياسية والدينية.
أخذ السجال وقته ومع الأيام تداعت تلك الذرائع وتساقطت وانتشرت المقاهي في كل الزوايا والشوارع ودخلت القهوة كل البيوت وتناسى الجميع تلك النقاشات وتلاشت كل الافكار الباحثة عن مؤامرة عربية لتدمير الحضارة الأوروبية.
هدأ النقاش في الغرب لينتقل إلى الشرق (المشرق العربي تحديدا) ليعاود السجال على القهوة الظهور مجددا في المنطقة التي اتهمت سابقا بالاتجار بهذه المادة والسيطرة على اسواقها العالمية. وبلغ الجدال على شرب القهوة (والمقاهي) حده ووصل احيانا إلى التحريم والتكفير لأن مادة الشراب مفسدة ومضرة وتؤدي إلى الخمول مرة والارق مرة أخرى. وهكذا.
استمر النقاش العربي على القهوة العربية فترة زمنية بين مؤيد وكاره وبين من ينصح باجتنابها وبين من يفضل عدم الاكثار منها وبين من يستحبها. ومع الايام تراجع النقاش وتداعت مختلف الذرائع وتساقطت زمنيا وانتصرت القهوة بانتشارها في المقاهي والبيوت ونسي الناس كل تلك المقالات أو الفتاوى التي صدرت بشأنها.
من لا يشرب القهوة اليوم؟ قلة قليلة ولاسباب صحية ، بينما الاكثرية تشرب هذه المادة يوميا كما تشرب الماء. فالزمن له احكامه وفتاواه وهو في النهاية يغربل الحق ويفصله عن الباطل ويدفع الاشياء نحو الاستقرار حين تستقر الانفعالات والنفوس.
وعلى قياس القهوة يمكن ملاحظة الكثير من الأمور الجديدة (البدع النافعة) والمستحدثة، فهي حين تطل برأسها تثير العجب والاستغراب ويبدأ التنبيه لها بهدف فحصها وتقليبها حتى يعرف خيرها من شرها. ولأن معظم المسائل فيها المضار وفيها المنافع ينشأ الاختلاف بين الناس في النظر إلى الاشياء ومقاربتها بتخوف وحذر حتى تستقيم الأمور وتسير في الصراط الصالح. وما حصل للقهوة حصل ايضا مع المسرح والتلغراف والمذياع والسينما والتلفزيون والهاتف... وصولا إلى البرامج والمنوعات وغيرها من حقول لها صلة بالفن والطرب.
الكلام المتضارب الذي نسمعه اليوم عن حلقات بيغ براذور (الأخ الأكبر) أو الرئيس، سبق وقيل وكرر مرارا عن أم كلثوم مثلا. فمن لا يسمع أم كلثوم اليوم؟ قلة قليلة وفي طليعتها «الجيل الجديد»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 538 - الأربعاء 25 فبراير 2004م الموافق 04 محرم 1425هـ