استغرب السفير الألماني في واشنطن فولفغانغ إيشنيغر الاهتمام الكبير الذي توليه الإدارة الأميركية له. وسبب الغرابة أن السفير الألماني واجه فترة صعبة بسبب الخلاف الذي نشأ بين الحكومتين الأميركية والألمانية على حرب العراق. بعد أكثر من نصف عام على عمر الحرب عاد البريد يحمل إلى السفير الألماني دعوات من البيت الأبيض. هذه المرة وصلته دعوة للحضور إلى فورت ليزلي ليسمع خطاب الرئيس جورج بوش عن الحرب التي تشنها القوة العظمى على الدول التي تملك أو تسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل. في الوقت المحدد جلس السفير الألماني في صف متأخر في قاعة تابعة لجامعة الدفاع القومي لكن رئيس المراسم في البيت الأبيض طلب من سفير ألمانيا أن يتفضل للجلوس في الصف الأول وإلى جانب مستشارة البيت الأبيض للأمن القومي كونداليزا رايس ما دفعه للشعور بأنه على وشك أن يشهد يوما مثيرا.
ثم جاء الرئيس بوش وقبل أن يلقي خطبته رحب بالسفير الألماني وشكره على حضوره. ليس من عادة الرئيس أن يولي أكثر من هذا التكريم لسفير دولة أجنبية لكن رايس لاحظت مدى الحيرة التي انتابت السفير الألماني وسارعت إلى وضع حد لحيرته وذكرت له سببين لدعوته للحضور: أولا، إبلاغه أن البيت الأبيض تلقى باهتمام المبادرة تجاه الشرق الأوسط الكبير التي صدرت عن وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر خلال انعقاد المؤتمر الأمني أخيرا في ميونيخ وثانيا، أن الرئيس أراد اغتنام الفرصة ليعرب عن سروره للزيارة التي سيقوم بها المستشار الألماني غيرهارد شرودر إلى واشنطن في 27 من الشهر الجاري.
كتب السفير الألماني ما حصل في تقرير إلى برلين وسرعان ما وجد المحللون في وزارة الخارجية ومقر المستشارية أن واشنطن باشرت حملة دبلوماسية لتلطيف الأجواء مع ألمانيا وحتى وقت قريب كانت هذه الدولة بعيون المسئولين الأميركيين تابعة لأوروبا القديمة بحسب تعبير وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد. وكان الأخير قد امتنع خلال مشاركته في المؤتمر الأمني بميونيخ عن استفزاز معارضي حرب العراق من الأوروبيين وتخلى تماما عن إحراج نظيره الألماني بالسؤال مرة أخرى عن موعد إرسال جنود ألمان إلى العراق. بعد وقت قصير على سفر رامسفيلد جاء سكرتير الدولة بوزارة الدفاع الأميركية جون بولتون أحد أبرز صقور الإدارة الأميركية، إلى برلين وتحدث عن أهمية التعاون بين الولايات المتحدة وألمانيا.
وكانت كوندليزا رايس قد نصحت البيت الأبيض بعد غزو العراق بأن يجري الصفح عن الروس وتجاهل الألمان ومعاقبة الفرنسيين. لكن لا يلاحظ المراقبون أن الإدارة الأميركية تعمل بهذه النصيحة بل على النقيض توحي بأنها تسعى للصفح عن معارضي الحرب بين حلفائها والأسباب فرضت نفسها. أبرز هذه الأسباب أن القوة العظمى اكتشفت بعد حرب أفغانستان وحرب العراق أن لطاقاتها العسكرية حدود.
كما أنها بحاجة إلى تعاون الأصدقاء. فقد تحول غزو العراق إلى كارثة ووضع بوش في مأزق قد يكلفه خسارة انتخابات الرئاسة المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. في هذا الوضع طلب بوش من الأمم المتحدة التوسط في نزاع العراق والتدخل لدى شيعة العراق الذين يشكلون الغالبية لقبول تأجيل موعد الانتخابات. ثم توجه بوش طالبا العون من الثلاثي الذي عارض الحرب: ألمانيا وفرنسا وروسيا.
حتى الساعة يبدو بوش الأوفر حظا للفوز بولاية ثانية في منصبه لكن منافسه الديمقراطي جون كيري يتبع استراتيجية بالتركيز على ضعف سياسة الإدارة الأميركية تجاه العراق ويضع بوش تحت ضغط. وكان كيري قد اتهم بوش بالتخلي عن حلفاء الولايات المتحدة البارزين في الوقت الذي كانت القوة العظمى بأمس الحاجة إليهم. خلال الحرب قاطعت الإدارة الأميركية برلين وباريس وموسكو وقال المستشار الألماني «انه يطلع على ما يخطط له الأميركيون من وسائل الإعلام المحلية».
وكانت واشنطن في السابق تطلع أبرز حلفائها على تفاصيل ما تعد له مسبقا. شكوى كيري دفعت بوش إلى التودد من برلين وباريس وموسكو. كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أول من شعر بتودد واشنطن الجديد لكن المفاجأة كانت التودد الذي أظهرته واشنطن تجاه فرنسا التي طلبت رايس معاقبتها. فقد أثار وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دو فيلبان أعصاب المسئولين في واشنطن كلما تحدث أمام مجلس الأمن الدولي قبل غزو العراق.
وبعد لقاء تم حديثا في نيويورك مع نظيره الأميركي كولين باول قال دو فيلبان: إننا نتعاون مع بعض. وحين زارت وزيرة الدفاع الفرنسية ميشيل أليوت ماري العاصمة الأميركية تحدثت عن وضع جديد وأكدت أن التوتر الذي خيم على علاقات البلدين قد انتهى. من ناحيته فإن المستشار الألماني دعا مرارا إلى نسيان الخلاف الذي نشأ قبل الحرب والنظر إلى المستقبل والتعاون لمساعدة العراق كي ينهض على قدميه. على مدى أشهر خيم توتر على العلاقات بين واشنطن وبرلين وليس هناك شعب في أوروبا يسخر من بوش مثل الشعب الألماني. في الصيف الماضي تجنب بوش أي لقاء يجمعه مع المستشار الألماني. ثم زادت ألمانيا عدد قواتها في أفغانستان وخففت بذلك أعباء العسكرية الأميركية في هذا البلد وحين قرر بوش شكر المستشار الألماني اختار الاجتماع به في غرفة بفندق بمدينة نيويورك وكان قد صارح مقربين منه بأنه يجد صعوبة في النظر بوجه شرودر الذي خانه برفضه الحرب واستغلال الأزمة العراقية للفوز بالانتخابات العامة بعد أن شن حملة معادية للولايات المتحدة.
منذ سنوات وباب البيت الأبيض موصد بوجه المستشار الألماني ووزير الخارجية الألماني لكن الفشل والمأزق الذي وقع فيه بوش في العراق دفعه إلى أن يدعو شرودر لزيارته في البيت الأبيض يوم الجمعة المقبل وهذه المرة ستكون مدة اللقاء أطول للحديث معه بإسهاب خلال غداء عمل. فجأة بدأت واشنطن تمارس سياسة ودودة تجاه معارضي غزوها للعراق من الأوروبيين الذين يتجنبون استفزاز واشنطن. في الغضون أصبح محور موسكو - باريس برلين في عهدة التاريخ وتحاول برلين وباريس استعراض وحدتهما السياسية.
وقال أحد مستشاري الرئيس الفرنسي إن المحور الفرنسي الألماني يبقى أبرز أسس العلاقات بين فرنسا وألمانيا. لكن المحور الثنائي الذي تأسس في عهد الرئيس شارل ديغول والمستشار كونراد أدناور على وشك أن يتحول إلى محور ثلاثي. فقد انضم طوني بلير لهذا المحور وهو أبرز حلفاء واشنطن في أوروبا. ويجد المحللون الألمان أنه لا يمكن حدوث شيء في القارة الأوروبية من دون الأخذ برأي لندن لذلك سيصبح واردا في المستقبل عقد لقاءات قمة ثلاثية تجمع المستشار الألماني ورئيس الوزراء البريطاني والرئيس الفرنسي كما حصل في برلين خلال الأسبوع الماضي، لتنسيق المواقف تجاه مختلف القضايا المهمة.
وتجاوبت ألمانيا وفرنسا مع دعوة بوش لإعفاء جزء من ديونهما للعراق لكن الأمر يحتاج إلى مفاوضات مع حكومة عراقية شرعية. لكن معارضة برلين وباريس للحرب باتت أيضا في حكم الماضي. من جهتها ستوفد ألمانيا بدءا من الشهر المقبل إلى أبوظبي خبراء ألمان لتدريب أفراد في الشرطة العراقية على مكافحة الجريمة وتتحمل برلين كلفة الطاقم الألماني بينما تتحمل دولة الإمارات العربية المتحدة بقية الكلف. كما تقدم برلين مساعدات تنموية للعراق لكن فيما يتعلق المشاركة بجنود في مهمة عسكرية في بلاد الرافدين تتمسك ألمانيا بتحفظها ويبذل شرودر وفيشر قصارى جهدهما كي يؤجل حلف شمال الأطلسي مهمته في العراق حتى العام 2005 ويبحثان عن طريقة لتجنب إرسال عسكريين ألمان ضمن هذه المهمة لكن هذا صعب للغاية.
لقد ولى زمن استعانة الرئيس الأميركي بالمستشار الألماني في الحملة الانتخابية والعكس والشعور السائد أن حكومة الائتلاف الاشتراكي الأخضر في برلين تفضل أن يخسر بوش الانتخابات لكن الحكمة السياسية تدعو إلى التزام الصمت. وتم صرف النظر عن عقد لقاء بين شرودر وكيري منافس بوش على الرئاسة.
على رغم الانفراج الحاصل على العلاقات بين واشنطن وبرلين لا يعتقد أحد في العاصمة الألمانية أن لقاء بوش مع شرودر سيحل كل الخلافات العالقة. الأوروبيون يصرون على تحقيق الاستقرار في المنطقة العربية من خلال حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بينما بوش على العكس من سلفه كلينتون لا يعير أهمية كبيرة لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. بتاريخ السادس من يونيو/ حزيران سيتوجه بوش إلى مقاطعة النورماندي في فرنسا للمشاركة في ذكرى إنزال قوات الحلفاء وسيكون غرضه الحصول على صورة مع أبرز زعماء الغرب خدمة لحملته الانتخابية ولا شيء يشغل باله أكثر من الفوز بولاية ثانية في منصبه
العدد 537 - الثلثاء 24 فبراير 2004م الموافق 03 محرم 1425هـ