إن استدعاء مواطن التطييف، وتقسيم المجتمع إلى طائفتين متباعدتين متباغضتين، والتطرق لموضوع الطائفية، والتي «يشتكي منها - المواطن - لأنه ضحية وليس لأنه ضد المبدأ من الأساس» أي لا يشكو منها إلا من يُكوى بنارها، أو لا يشكو منها إلا الممارس ضده تلك النزعات البغيضة، أما حينما تكون الممارسة ضد أشخاص وطوائف وفئات أخرى فلا ضير، ولا يهتز لنا طرف، وكأن الأمر لا يعنينا. نعم ليس معارضة الطائفية من حيث المبدأ بل من حيث النتيجة، فإن هي وقعت علي فإنني استصرخ القوم وأرفع عقيرتي بالمطالبة بإنصافي، أما حينما يُكوي بنارها غيري فلا يهم ذلك.
الفقرة السابقة هي من أدق ما قرأت في صحافتنا المحلية عن الطائفية. فقد أوتى بالأمر من فصه، كما تقول العرب.
«التمترس» خلف الطائفة
وفي طاحونة الطائفية نقول: إنه لا توجد صعوبة في (توصيف) ممارسات طائفية، وإحصاء سكنات وهمسات على أفراد الطائفة الأخرى، فذلك يلاحظه كل إنسان متواضع الفهم، ويستنبطه من مجرى الحوادث اليومية، في الوزارات والمؤسسات والأندية والمجالس الأهلية واللقاءات... إلخ، ولكن الصعوبة تكمن في النقد الذاتي لتلك الممارسات. بمعنى أدق أن ينتقد الشخص ممارسات أفراد من طائفته بالقوة نفسها والحدة التي ينتقد بها ممارسات أفراد الطوائف الأخرى. وإن كنا نعتبر ذلك النقد هو عمق السمو الوطني إذ يتعالى المرء بنفسه ويستخرج مواطن (التطييف/ التقسيم/ التجزئ) والخلل في ممارسات طائفته التي ينتمي إليها، وتلك هي روح المواطنة المسئولة. وتلك الروح مع الأسف هي ما نفتقدها، سواء في الصحافة من قبل الكتاب أم في المنتديات والندوات والمؤلفات الكثيرة وغيرها وفي مختلف المجالات، سواء على الصعيد المؤسساتي الرسمي أم الأهلي.
وبالتالي... فلا نجد مواطنا إلا ويكون متمترسا خلف طائفته وليس خلف القانون، ويعول على طائفته وليس على كفاءته وخبرته، وينظر بحسب مصالح طائفته وليس وطنه ومواطنيه، وذلك ما لا علاقة له بدين أو مذهب بقدر علاقته بمصالح مادية ومراكز قوى ونفوذ أو مكتسبات ومصالح سياسية متخذة الطابع الديني (الطائفي) الفئوي في تنظيراتها... وهنا مكمن الخطورة حينما يتدثر الخطاب السياسي بالعباءة الدينية، وبطبيعة الحال لا نعني عزل الديني عن السياسي؛ إذ إن السياسي جزء من الكل الديني في الإسلام، ولكن بمثل تلك الخطابات الطائفية الضيقة إلى ماذا نصل؟ وخصوصا إذا ما تكفلت بحمل تلك الشعارات الطائفية أدمغة وعقول جامعية ومثقفة، وهي ترفض الطائفية وتمارسها، وترفض التمييز وتمارسه، وترفض ازدراء الطوائف الأخرى وتمارسه خفية ومن خلف جدر، تؤيد الممارسات والاقصاءات الطائفية في السر وترفضها في العلن وأمام وسائل الإعلام.
وحينما يتبنى مثل تلك المواقف إنسان بسيط الثقافة أو معدم التعليم وسطحي التفكير، ومسطح الفهم والإدراك؛ فيجب حينها على المثقف القيام بواجبه في التنبيه لخطورة هذا النمط من التفكير، ويحاول تصحيح المفاهيم. أما حينما يتبنى تلك المواقف الطائفية إنسان صاحب فكر حر نير وبعيد النظر في عدة مجالات وله باع طويل في فروع مختلفة من العلم والثقافة، فمن يأخذ بيده ناحية جادة الصواب؟
إذ قد يكون المرء ذا رؤى متقدمة في عدة مجالات وله اجتهادات ودراسات؛ ولكنه يقف حائرا أو مترددا حينما يتعلق الموضوع بطائفته أو ببعض ممارسات أفراد طائفته، ويرجئ النظر في مثل تلك الموضوعات ذات الأبعاد الوطنية الخالصة، فعملية «المزج بين الفكر العقلاني والحرية الشخصية والهوية الثقافية» غير مكتملة عنده.
بث وعي مزيف لتسخير الطائفة
وفي مشهد آخر يقوم المثقف (عن قصد) بتسخير (الطائفة) لمآرب سياسية حقيرة، كما هو حاصل في الكثير من البلدان، والتي يستخدم المثقف الطائفة كمطية لتحقيق مآرب سياسية، والطائفة، نستخدمها هنا أيضا، للتعبير عن مجموعة قد تتكون من قبيلة أو عرق معين، أو دين أو مذهب، وذلك بحسب الواقع الذي يعيشه المثقف، فيعزف على وتر التردي الاقتصادي أو الاستقلالية السياسية أو المساواة الاجتماعية، أو افتقار أفراد الطائفة للثقافة السياسية، وكلها أمور في الغالب يؤيدها الواقع المعاش، ويقوم هذا المثقف بتسخير تلك العوامل في تأجيج المشاعر والنفخ في «تنور الطائفية» من أجل الوصول لمآرب سياسية حقيرة، ويعمل من خلال بث وعي مزيف لأبناء الطائفة المستهدفة والتي يحاول تسخيرها لخدمة أغراض سياسية بحتة، ويقوم بعملية مراوغة سياسية من خلال (الوعد) بتحصيل المصالح الصغيرة للطائفة وذلك على حساب المصالح الوطنية الكبيرة. وذلك ما يحصل في الكويت مثلا وحدث في البحرين ابان الانتخابات النيابية، وقد رأينا بعض الشعارات الانتخابية لبعض المترشحين (اليساريين) يرفع شعارات ضد السياحة الهابطة! وهو الذي كان طوال فترة ما قبل الانتخابات ينادي بالحرية المطلقة ويؤكد بأن السياحة «الجنسية» من دعامات الاقتصاد الوطني! وإحدى المترشحات تطالب، وهي ممن عرفن بعداوتهم للشريعة، تطالب بالمحافظة على التقاليد الإسلامية! كل ذلك لأغراض انتخابية. وكذلك الحال مع أخينا صاحب الجمعية التي تدعو إلى «التجمع» و«الديمقراطية» و«الوطنية» والذي كاد أن يغيبه الموت فترة الاحتقان السياسي في التسعينات جراء عناده السياسي، المشرف في الحقيقة، ولكن ما حدث له من «ردة فعل» قلبت موازينه، السياسية منها تحديدا، فانقلب من رجل وطني ديمقراطي إلى رجل يدعو إلى التجمع والتمترس خلف طائفة بعينها، وبذلك بعثر رصيده في النضال الوطني بحثا عن دور طائفي، كل ذلك من أجل «أغراض سياسية» يعلمها القاصي والداني... إلا أخينا هذا! «يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك».
وعلى رغم كل تلك الأغراض السياسية والتي في سبيلها تستخدم كل الأوراق العرقية والقبلية والطائفية، إلا أن الواقع في البحرين يؤكد وجود قواعد عريضة للطائفتين الكريمتين (السنية والشيعية) وذلك ما أكد عليه أحد رموز إحدى الطائفتين بقوله: «إذا أراد أحد من المترشحين أن يفوز بمقعد بلدي أو برلماني فعليه أما ارتداء العمامة أو إطلاق اللحية» في إشارة إلى التيار الديني الشيعي والسني، وهنا أيضا استعير عبارة جد مهمة في مثل هذا السياق ومعبرة عن الوضع الذي آلت إليه البلد ومؤشر للخطر المحدق من جراء الانشطار والتشظي الطائفي، إذ يقول الكاتب: «أصبح السائل يعتبر مغفلا لأنه يعيش في غير الواقع» فأي واقع هذا؟!
وأما الديمقراطية والمواطنة الحقة فهي - إذا جاز لنا التعبير - في جانب منها رفض ونبذ كل أشكال الطائفية. تلك الطائفية التي تجعل من المرء حبيسا للمرجعية الطائفية والاجتهادات الفقهية والفتاوى التراثية، والتي كانت مناسبة أو معقولة أو مفهومة في الأزمان الغابرة؛ فلا يتهيأ للإنسان مجالا للرد والأخذ مع مختلف الأطياف والأطراف، وبالتالي فهو يوصد كل الأبواب المشرعة ويدعو إلى التقوقع والانزواء وشن الحروب المقدسة ضد الآخرين. ويبقى القول صحيحا في أن الذهنية الديمقراطية هي تلك التي تعترف بوجود المواطن الحرّ الذي له الحق في الانتماء إلى تجمعات اقتصادية أو ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، ومن الأسس الديمقراطية وجود نظام سياسي يحمي الحريات الأساسية.
ومضــات
- حينما يلام المرء من طرفي خلاف متناقضين متشددين... فهو قريب من الاعتدال والحق.
- البعض يحلو لهم تقطيع الجمل وتفكيكها وتحليلها، وكأننا نكتب معادلات كيماوية، وليس مقالا يتطلب وحدة الموضوع والخطوط الرئيسية له، وترابط الأفكار والجمل... كل هذا فقط من أجل توظيف أفكار مجتزئة من مقال يخدم ويتناسب مع الهاجس الطائفي، ومن دون الرجوع إلى أن الأصل في المسلم حسن النية.
- أخي السيد المحترم... هذا ما أوصلتنا إليه الطائفية البغيضة... وسباق البيضة أم الدجاجة، وننسى الديك المتمخطر ضاحكا متمتعا بهذا السباق، فلا دجاجة تبيض ولا بيضة توجد من دون ديك فتتبعوا الديك
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 537 - الثلثاء 24 فبراير 2004م الموافق 03 محرم 1425هـ